Dr. Abdulaziz Sager

أسواق العمل الخليجية: مشكلات قديمة لا تزال تبحث عن حــلول

تعاني دول مجلس التعاون الخليجي، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، خللاً واضحاً في هيكل التركيبة السكانية وقوة العمل. وهذه ظاهرة قديمة ارتبطت بالطفرة النفطية الأولى التي حدثت على أثر حرب أكتوبر عام  1973، وما ترتب عليها من ارتفاع كبير في أسعار النفط وعائداته. فعلى خلفية ذلك  اتجهت حكومات الدول الخليجية إلى توظيف جانب من العائدات النفطية في تنفيذ برامج طموحة للتحديث الاقتصادي والاجتماعي وإقامة مشاريع البنية التحتية. ونظراً لقلة عدد سكان هذه الدول، ومحدودية أعداد المتعلمين وأصحاب المهارات من مواطنيها في ذلك الوقت، فإنها فتحت الباب أمام العمالة الوافدة لتلبية الطلب المتزايد على عنصر العمل.

ومع تقدير الدور الإيجابي الذي قامت به العمالة الوافدة في المراحل الأولى للتأسيس والبناء، إلا أن استمرار تدفقها بأعداد متزايدة على دول المجلس أدى مع مرور الوقت إلى تعميق الخلل في التركيبة السكانية لهذه الدول. وأصبحت هذه الظاهرة تشكل حالياً مصدر قلق في بعض الدول، كما هي الحال في كل من الإمارات وقطر والكويت، حيث يمثل  الوافدون الغالبية سواء على مستوى إجمالي السكان أو قوة العمل. ومن المعروف أن غالبية الوافدين ينتمون إلى عدد محدود من الدول الآسيوية في مقدمتها الهند وباكستان. وفي هذا السياق، كتب كثيرون عن التأثيرات السلبية للعمالة الوافدة في دول المجلس سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الأمني، وخاصة مع تزايد ظاهرة انخراط فئات من العمالة الوافدة في أعمال الإضراب والاحتجاج خلال السنوات الأخيرة.

وعلى الرغم من كثرة الكتابات الأكاديمية والتقارير الحكومية وغير الحكومية التي تناولت هذه المشكلة وحذرت من مخاطرها، وعلى الرغم أيضاً من تعدد الخطط والبرامج التي تبنتها دول المجلس سواء على المستوى الفردي أو الجماعي من أجل مواجهتها، إلا أن النتائج كانت متواضعة في العديد من الحالات، حيث إن المشكلة استمرت، بل ازدادت تفاقماً في بعض الدول مع مرور الوقت، خاصة وأنها  أصبحت مرتبطة بمطالب دولية تطرحها وتتبناها بعض الدول والمنظمات الدولية، الحكومية وغير الحكومية، المعنية بحقوق الإنسان.

والهدف من هذا المقال ليس تكرار الحديث عن هذه المشكلة من حيث أسبابها ومظاهرها وآثارها، بل تسليط الضوء على بعض القضايا المهمة وطرح بعض التصورات التي تعزز من قدرة دول المجلس على معالجة هذه المشكلة، مع الأخذ في الاعتبار أن المشكلة تراكمت على مدى عقود ولا يمكن حلها في يوم وليلة، كما أن أية معالجة حقيقية وجدية لهذه المشكلة لا بد أن تستند إلى استراتيجية متكاملة تعالج مختلف أبعادها وجوانبها، وتحقق التوازن المنشود بين حاجة دول المجلس إلى نسبة من العمالة الوافدة من ناحية، وحاجتها في الوقت ذاته إلى الحفاظ على هويتها الثقافية والحضارية، وتوفير فرص العمل لمواطنيها، وتفادي الضغوط والانتقادات الدولية التي يمكن أن تأتي من باب العمالة الوافدة من ناحية أخرى.

وفي هذا المقام تؤكد تقارير ودراسات عديدة أن نسبةً يعتد بها من العمالة الوافدة في بعض دول المجلس هي من العمالة غير الماهرة مثل المزارعين وخدم المنازل ومن في حكمهم، فضلاً عن العمالة السائبة، والتي تشمل العمال غير المنخرطين  في عمل منتظم، والمخالفين في الغالب  لقوانين العمل والإقامة. ومثل هذه العمالة لا تضيف إلى العملية الإنتاجية، بل تشكل عبئاً على الاقتصاد والمجتمع والخدمات. ولذلك هناك حاجة ضرورية لمعالجة وضعية هذه النوعية من العمالة بما يحد من تأثيراتها السلبية في المجتمعات الخليجية.

 ومن المفارقات أنه في الوقت الذي يشكل فيه الوافدون الغالبية ضمن هيكل قوة العمل في بعض دول المجلس، فإن معدل البطالة بدأ يتزايد بين مواطني هذه الدول وخاصة بين المتعلمين منهم. ومن المعروف أن مشكلة البطالة تمثل بيئة ملائمة لظهور وتمدد ظواهر التطرف والعنف والجريمة. ومع تعدد أسباب ظاهرة البطالة بين مواطني دول المجلس، فالمؤكد أن وجود فجوة حقيقية بين مخرجات المؤسسات التعليمية واحتياجات سوق العمل إنما يغذي هذه الظاهرة، الأمر الذي يؤكد أهمية ربط السياسات التعليمية بخطط التنمية ومتطلبات أسواق العمل. كما أن  نظرة بعض الشباب من مواطني دول المجلس إلى قيمة العمل ومفهوم الوظيفة ومتطلبات الترقي في العمل بحاجة إلى تغيير، وهذه مسألة ثقافية لا بد أن تتضافر جهود الأسرة والمدرسة والجامعة ووسائل الإعلام من أجل تحقيقها.

ونظراً لارتفاع معدل التعليم العالي بين النساء في دول مجلس التعاون الخليجي، فقد آن الأوان لإفساح مجال أوسع للمرأة الخليجية لتثبت وجودها في مجالات العمل والإنتاج، خاصة وأنها أثبتت جدارتها في العديد من المجالات. ولكن بعض الاعتبارات الثقافية والقيمية والاجتماعية تقلص من مساهمة المرأة في قوة العمل وتجعلها محصورة في مجالات بعينها، مما يحد من إمكانية الاستفادة منها كعنصر فاعل في عملية التوطين، وبالتالي معالجة مشكلة الخلل في هيكل قوة العمل.

وعلى الرغم من أن  كثرة الحديث عن التوطين، وتعدد الخطط والبرامج التي نفّذتها دول المجلس خلال العقود الماضية لرفع معدلاته، إلا أن نسبة التوطين في العديد من القطاعات لا تزال متواضعة في بعض دول المجلس، الأمر الذي يتطلب إجراء تقييم شامل لهذه الخطط والبرامج، واتخاذ إجراءات عملية من أجل تفعيل عملية التوطين، وذلك من خلال مسالك وأساليب عديدة في مقدمتها تعزيز برامج التدريب وتنمية المهارات الموجهة للمواطنين بما يؤهلهم للإحلال محل الوافدين.

ولا يمكن الحديث عن سياسات التوظيف والتوطين في دول المجلس من دون الإشارة إلى دور القطاع الخاص في هذا الخصوص، فعلى الرغم من تمدد دور هذا القطاع في دول المجلس، والدعم الذي يحظى به من قبل الحكومات الخليجية، إلا أن دوره في تشغيل المواطنين دور محدود في أفضل الأحوال، حيث إن كثيراً من أصحاب الأعمال يفضلون توظيف الوافدين لاعتبارات معروفة للجميع، خاصة وأن نسبة لا يُستهان بها من أنشطة القطاع الخاص، مثل تجارة التجزئة والمهن الحرفية وغيرها، هي بشكل أو آخر في أيدي وافدين. ولذلك فإن هذا الملف بحاجة إلى مراجعة جذرية، بحيث يتم التوصل إلى حلول عملية تشجع القطاع الخاص على توظيف المواطنين، وتشجع المواطنين أيضاً على العمل فيه. ومن دون ذلك سوف تتزايد مشكلة البطالة في دول المجلس مع مرور الوقت، خاصة وأن قدرة الأجهزة والمؤسسات الحكومية على استيعاب عمالة جديدة هي قدرة محدودة في أفضل الأحوال.

وخلاصة القول أنه في ظل الطفرة النفطية الجديدة، وما تتيحه لدول المجلس من فرص، فإن هناك حاجة ملحة لمعالجة مشكلة الخلل في أسواق العمل الخليجية استناداً إلى رؤية متكاملة  تقوم على بناء قواعد بيانات ومعلومات دقيقة  عن قوة العمل في هذه الدول، وتحديث قوانين وسياسات العمل والعمال، وربط مخرجات التعليم باحتياجات سوق العمل، وإفساح مجال أوسع للمرأة الخليجية للمساهمة في العمل والإنتاج، وتشجيع القطاع الخاص على توظيف المواطنين، وتكثيف الاعتماد على الأساليب والتقنيات منخفضة العمالة في العملية الإنتاجية، والتصدي بحسم لأية مخالفات لقوانين ونظم العمل والإقامة وخاصة في ما يتعلق بالتسلل، والاتجار في التأشيرات، وعدم وفاء بعض الشركات بالتزاماتها تجاه العمال. فضلاً عن تعزيز التعاون والتكامل بين دول مجلس التعاون في هذا المجال، ووضع الخطط والبرامج المناسبة والتي من شأنها إفساح مجال أكبر لتوظيف العمالة اليمنية في دول المجلس، وهذا يتطلب بالطبع تحرك  الحكومة اليمنية بشكل جدي من أجل تطوير قدرات العمالة المحلية لتتلاءم مع معايير ومتطلبات أسواق العمل الخليجية.

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Facebook
Twitter
YouTube
LinkedIn
Scroll to Top