لم يمثّل خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش في السادس عشر من يوليو 2007م، والذي دعا فيه إلى إحياء عملية السلام بين العرب وإسرائيل، مفاجأة للمراقبين لتطورات الأزمة الخانقة والمتصاعدة التي تدور حلقاتها في أروقة السياسة الأمريكية وعلى كل مستوياتها، الحزبية والرسمية في الوقت الراهن. فالجدل السياسي الحاد القائم في واشنطن اليوم يدور حول محور واحد وأساسي، هو المأزق الأمريكي في العراق. فالعنوان الحقيقي للأزمة ليس هو فلسطين أو قضية الأراضي العربية المحتلة، والتي قرّرت القيادة الأمريكية وضعها على رف النسيان منذ وقت طويل، بل هو (كيف يمكن تحرير أمريكا من المأزق العراقي؟). وفي هذا السياق جاء خطاب الرئيس الأمريكي الذي تضمّن الدعوة لإحياء مسيرة السلام في الشرق الأوسط، عبر مؤتمر دولي جديد يُعقد في الخريف المقبل ويضم الأطراف المعنية كلها، جاء ليمثل أحد الإفرازات الجانبية لأزمة أمريكا الخانقة في العراق.
وبهدف حشد التأييد العربي لهذه المبادرة، قام الرئيس الأمريكي بإجراء اتصالات شخصية مع عدد من القيادات العربية، بما في ذلك قيادة المملكة العربية السعودية، التي لم تتأخر عن إعلان الترحيب بالفكرة واعتبرتها بمثابة خطوة في الاتجاه الصحيح، بحكم كونها تتطابق مع أهداف ومرامي المبادرة العربية للسلام في الشرق الاوسط، التي تدعمها الدول العربية كلها.
وفي هذا السياق، فإن ترحيب المملكة العربية السعودية بالفكرة يجب ألا يُفسر خارج إطاره المحدد، بكونه لا يتجاوز مجرد الموافقة على المقترح الأمريكي الذي ينطوي على مبدأ عام يؤكد عليه كثيرون، وهو ضرورة تحقيق السلام في الشرق الأوسط، باعتبار أن ذلك شرط ضروري للأمن والاستقرار، وبالتالي فإن موافقة السعودية على الدعم العملي والمساندة الفعلية لأي مبادرة أمر مرهون بتحديد المعالم الدقيقة لمضمون المبادرة وأهدافها. فالترحيب السعودي بإحياء مسيرة السلام على مستوياتها وأطرها الدولية هو مطلب أساسي للأطراف العربية كلها. وهو الاطار والآلية اللتان يمكن من خلالهما تحقيق أهداف مبادرة السلام العربية.
وبصفة عامة، فإن من المهم أن تقوم دوائر القرارات العربية، وقبل المشاركة الفعلية في توفير الدعم للمبادرة الأمريكية الجديدة بشأن السلام في الشرق الأوسط، بمحاولة استخلاص العبر والدروس من تجارب فشل المبادرات السابقة. فإذا كانت هذه المبادرة قد وُلدت من رحم المأزق الأمريكي في العراق، ورُسمت خطوطها من أجل تحسين وتلميع صورة الإدارة الأمريكية، أو تخفيف الضغوط الهائلة التي تئن تحت ثقلها من جراء عوامل ومتغيرات عدة منها: فشل السياسة الأمركية في العراق، وتدهور الأوضاع في أفغانستان في ظل تصاعد هجمات حركة طالبان، واستمرار أزمة الملف النووي الإيراني، وتواضع نتائج الحرب على الإرهاب، ووجود صورة سلبية للولايات المتحدة على الصعيد العالمي، إذا كان الأمر كذلك، فإنه من المهم أن يكون موقف العرب واضحاً وصريحاً بخصوص أي مبادرات جديدة لتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، فهذا الصراع هو صراع مصيري، بل إن مستقبل المنطقة يتوقف في جانب مهم منه على طريقة تسوية هذا الصراع، أو وضع نهاية له.
وفي ضوء ما سبق، يتعين على الدول العربية استغلال الفرصة الحقيقة، إن كانت هناك فرصة حقيقية، وتحديد المطالب العربية العادلة والمشروعة بشكل علني وثابت، وهي لا تتجاوز في أصلها محتوى ومطالب المبادرة العربية للسلام وقرارات الشرعية الدولية. كما يتعين على العرب العمل بشكل جدي وجماعي لتجنب التورط في جولة جديدة من الخداع والمراوغة، فحقيقة العلاقات العربية – الأمريكية اليوم يحكمها عامل انعدام الثقة. إذ اتسمت سياسة إدارة الرئيس بوش الابن بالافتقار إلى الحكمة وتبني المغامرات غير المحسوبة، التي كانت ولاتزال لها تأثيرات سلبية عدة في العالم العربي. وقد اكتشف الرئيس الأمريكي وأقطاب إدارته أن سياستهم التي تقوم على محاباة إسرائيل على طول الخط لن تساعدهم، ولو قيد أنملة، على الخروج من مأزقهم العراقي. بل أكثر من هذا أصبحت بعض الدوائر الأمريكية على قناعة بأن اسرائيل التي دفعت واشنطن وشجعتها على غزو العراق لا تمتلك مفاتيح حل الأزمة، ولا تمتلك حتى القدرة على إعطاء النصائح النافعة، بل هي نفسها تعيش في رعب وترقب من تبعات انهيار الوضع الأمني والسياسي في العراق.
وفي الوقت نفسه، فقد أدرك صناع القرار الأمريكي، بعد تغافل وتجاهل طويلين، أن دعم الدول العربية قد يكون المفتاح الأساسي للمساعدة على خروج الولايات المتحدة من المأزق العراقي. وهنا يأتي الربط بين القضية العراقية والقضية الفلسطينية. ولكن قبل تقديم دعم عربي للسياسية الأمريكية في أي قضية من القضايا، على العواصم العربية إدراك حقيقة أن العلاقات بين الدول لا تقوم على العواطف والأماني، بل تحكمها المصالح والمنافع المشتركة والمتبادلة بين طرفي العلاقة.
وأخيراً، يجب التذكير بحقيقة ثابتة بخصوص مقترح المؤتمر الدولي الجديد، ففي العرف الدبلوماسي لا تُعد المؤتمرات الدولية، خاصة الموسعة منها، آلية للتفاوض المثمر، بل هي مجرد أطر معتمدة لإقرار ما انتهت إليه المفاوضات التي سبقت عقد المؤتمر. وهنا يكمن بيت القصيد، فذهاب العرب إلى المؤتمر الدولي يجب أن يكون لمهمة واحدة وحصرية هي: إقرار ومنح الشرعية لما سيتم الاتفاق علية مسبقاً، فلا حاجة لنا أن نكون جزءاً من استعراض دبلوماسي – دعائي جديد يصب في مصلحة الغير.
إن معضلة تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي وإحلال سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط ليس مبعثها غياب المبادرات، أو قلة القرارات، ولكن سببها الرئيسي هو استمرار تعنت السياسة الإسرائيلية في ظل الدعم المادي والسياسي المطلق الذي تقدمه لها واشنطن من ناحية، ووجود حالة من العجز العربي أو ضعف الإرادة العربية من ناحية أخرى. وفي ضوء انعدام مصداقية السياسة الأمريكية بشأن عملية السلام، فإن الدول العربية وإن قالت نعم لفكرة المؤتمر الدولي، لكونه يتطابق مع المطالب العربية لتحقيق حل عادل ودائم وشامل، إلا أن مشاركتها الفعلية والجدية يجب أن تكون مؤجلة ومشروطة إلى حين وضوح الصورة، من حيث طبيعة المؤتمر ومرجعيته وأطرافه.. إلخ، والتأكد من مصداقية النيّات، حتى لا تكون الجهود الأمريكية الجديدة بشأن السلام في الشرق الأوسط مجرد آلية لشراء الوقت، وتسويق الأحلام بقصد الحصول على دعم عربي حقيقي، يسمح لها بالخروج من ورطتها في العراق.