لم تكن العلاقة بين غزة ومصر وليدة اليوم أو أنها بدأت مع تدفق الفلسطينيين عبر معبر رفح إلى الأراضي المصرية. فالجغرافيا التي لا تكذب أبداً هي التي وضعت القطاع تحت إدارة مصر بعد حرب 1948، الأمر الذي استمر حتى حرب 1967 عندما وقع القطاع تحت الاحتلال الإسرائيلي. ولكن وإن تراجعت علاقات مصر مع قطاع غزة بسبب الأوضاع الجديدة، فإنها حتماً لم تنقطع، ولا سيما أن ذكرى الشهداء المصريين الذين سقطوا دفاعاً عن غزة لا تزال ماثلةً في الذاكرة العربية ومحفورةً في صفحات التاريخ.
وإن كان هناك من يشكك في هذا كله، فمن الناحية الإنسانية لا تستطيع مصر أن تتنكر لمسؤولياتها تجاه القطاع وأهله. ولذلك لم يكن مستغرباً أن تسمح السلطات المصرية لمئات الآلاف من الفلسطينيين بالتوجه إلى أراضيها بعد أن ذاقوا الأمرّين من الحصار الخانق الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على القطاع وما رافقه من عمليات اغتيال وتدمير وتجويع وقطع للكهرباء ومنع لدخول الأدوية. ولم يكن مستغرباً أيضاً أن توفر السلطات المصرية الأمن، وأن تقدم العون للفلسطينيين، وهو أمر تمليه الاعتبارات الإنسانية، وقبل ذلك الالتزامات العربية لمصر تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، فلو أن قوات الأمن المصرية أطلقت النار على الفلسطينيين، ومنعتهم من الدخول ليحصلوا على أبسط الاحتياجات من طعام وشراب ودواء، لوجدت القاهرة نفسها تقف إلى جانب تل أبيب، وتشاركها في اضطهاد هذا الشعب الذي يعاني من احتلال استيطاني بغيض . وقد جاء الانقسام السياسي بين حركتي (فتح) و(حماس)، والذي أفضى إلى وجود حكومتين، كلتاهما تدعي الشرعية، مع تجدد الاقتتال المسلح بين الطرفين من آن إلى آخر، جاء هذا الاقتتال ليكون بمثابة هدية على طبق من ذهب لحكومة أولمرت التي تتخبط على الصعيد الداخلي، وخاصة في أعقاب الفشل في الحرب على لبنان.
ولكن لا يمكن للمراقب لتطورات الأمور أن يقف عند هذا الحد في قراءاته لمجريات الأحداث وأبعادها، ولا سيما أن إسرائيل تركت الأمور تأخذ هذا المسار عن سابق تخطيط وإدراك. فحركة حماس، كما تعلم أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، تعمل منذ أسابيع على فتح فجوة في الجدار المعدني الذي أقامته إسرائيل عام 2001 وذلك باستخدام أجهزة القطع بالأوكسجين، وتمكنت بالفعل من قطع بضعة كيلومترات من الجدار الذي لا يقل ارتفاعه عن خمسة أمتار. أضف إلى ذلك أن وزير الخارجية الإسرائيلي السابق سلفان شالوم قال صراحة في لقاء مع إذاعة الجيش الإسرائيلي إنه بعد فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة فإن الخطوة التالية هي (أن يصبح مصير الضفة الغربية مرتبطاً بالأردن، بينما سيرتبط مصير قطاع غزة بمصر).
فعملية الحصار والاضطهاد وإغلاق المعابر، التي تمارسها إسرائيل بسادية مفرطة على أبناء غزة، تهدف إلى التخلص من غزة ومشكلاتها وإلقاء مسؤوليتها على كاهل مصر. ومن الواضح أن هذا يحقق أهدافاً عدة لإسرائيل لا يمكن أن تتوفر في أي ظروف أخرى. أولاً لن يكون مبرراً بعد ذلك إطلاق الصواريخ على المستعمرات الإسرائيلية، كما أنها لا تستطيع إطلاق هذه الصواريخ من الأراضي المصرية في سيناء. وعندها تصبح إسرائيل قادرة على فرض رؤيتها لإنهاء القضية الفلسطينية وإلغاء حق العودة أو المطالبة بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية. وفي هذا السياق صرّح نائب وزير الدفاع الإسرائيلي ماتان فيلناي بأن إسرائيل ترغب في نقل مسؤولية قطاع غزة من ناحية الكهرباء والمياه والأدوية إلى مصر. وأضاف في لقاء مع إذاعة الجيش الإسرائيلي (يجب أن نفهم أنه عندما تبقى غزة مفتوحة من الجانب الآخر فإننا سنصبح غير مسؤولين عنها). كما أنه إذا كان هناك تداول تجاري بين مصر وغزة، فسيكون من السهل أن تغلق إسرائيل كل معابرها إلى القطاع.
والخطير في السيناريو الإسرائيلي في حال تولي مصر مهمة مدّ غزة بالاحتياجات الأساسية، هو أن إسرائيل في حال إطلاق الصواريخ من المقاومة الفلسطينية على المستوطنات، سترد بالقصف المكثف على غزة، وهو ما سيدفع العديد من السكان للجوء إلى سيناء، التي لن تقدر إسرائيل على ضربهم فيها، باعتبارها أراضي مصرية، وهنا ستحاول تثبيت بقاء هؤلاء السكان في سيناء.
أما على الجانب الأردني، فإن المملكة الأردنية الهاشمية حريصة على عدم إيجاد سابقة خطيرة في العلاقات بين مصر وغزة، لكي لا تتورط هي في مرحلة لاحقة في مخطط مماثل يهدف إلى توريطها في ضم ما تبقى من الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية على حساب أمن واستقرار الأردن، ولا سيما أن نصف السكان ينحدرون من أصول فلسطينية. فالبلدان الوحيدان المرتبطان بمعاهدتي سلام مع إسرائيل، لا يريدان الانزلاق إلى شرك سيناريو التقاسم الوظيفي مع المناطق الفلسطينية المحتلة، الأمر الذي سيسمح لإسرائيل بالتملص من استحقاق قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. أليس هذا ما تريده إسرائيل؟
وعلى الرغم من أن البعض قد يروّج لسيناريو ضم غزة إلى مصر والضفة إلى الأردن على أمل الانتهاء من القضية الفلسطينية إلا أن المؤكد أنه في حال نجاح هذا السيناريو الذي لا يخدم المصالح المصرية أو الأردنية ستترتب عليه تبعات مدمرة على الشعب الفلسطيني الذي لا يزال في انتظار مصالحة بين فصائله التي لم تنجح حتى الآن إلاّ في إضاعة الفرصة تلو الأخرى، بينما تبقى المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل أسيرة التردد والتعنت الإسرائيليين.
وفي ضوء ما سبق، فإنه إذا كان يتعين على كافة الدول العربية وفي مقدمتها مصر مواصلة الجهود من أجل رفع الحصار الإسرائيلي البربري المفروض على غزة ، وإعادة اللحمة إلى الصف الفلسطيني بعدما أضر الصراع بين حركتي (فتح) و(حماس) بالقضية الفلسطينية أبلغ ضرر، وتلبية الاحتياجات الأساسية لسكان قطاع غزة حسب الظروف والتداعيات، فإنه يتعين الحذر كثيراً من أن يكون ما يجري حالياً في غزة مقدمة لتصفية القضية الفلسطينية وطيّ صفحتها بشكل نهائي، حيث تتطلع إسرائيل إلى التخلص من غزة وأعبائها، كما يتوجب الحذر من أن قوى دولية قد تتحرك عبر وسائل مختلفة لتهيئة الظروف التي من شأنها المساعدة على تحويل هذا السيناريو إلى واقع.