يواجه الأمن القومي العربي، بصفة عامة في المرحلة الراهنة كثيرًا من التحديات والمخاطر والمهددات الرئيسية التي تكمن في عوامل أساسية، فيما لم تتمكن الآليات الأمنية القائمة، خصوصًا على المستوى العربي، من تطوير القدرات للتعامل معها، وإن كانت دول مجلس التعاون الخليجي قد استشعرت هذه المخاطر وسعت إلى مواجهتها بشكل بناء، منذ اجتماع وزراء الداخلية الخليجيين بمدينة الرياض في 23 فبراير (شباط) عام 1982، ثم اجتماع مسقط في منتصف فبراير عام 1987، وما تلا ذلك في القمم الخليجية واجتماعات وزراء الداخلية في دول مجلس التعاون وآخرها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، التي تمخض عنها مشروع الاتفاقية الأمنية الخليجية، والشرطة الخليجية المشتركة، كل ذلك وغيره من الجهود الخليجية يؤكد اهتمام دول المجلس بمواجهة المخاطر الأمنية، أما على المستوى الأمني العربي، فهناك عدة أسباب تقف دون تفعيل القدرات الأمنية العربية الجماعية، نظرًا لثلاثة أسباب رئيسية تتمثل فيما يلي:
الأول: يتمثل في عامل التدخلات الإقليمية الخارجية، وهذا النوع من التدخلات يحمل خصوصية خطيرة تميزه عن التدخلات الخارجية الدولية. فالتدخلات الإقليمية تكمن آثارها الخطيرة في كونها تحمل دومًا نزعة الأطماع التوسعية الجغرافية وبسط النفوذ على حساب السيادة الوطنية للدول العربية، وتستخدم النزعات المذهبية والطائفية والاختلافات الإثنية والعرقية وسيلة لدعم سياساتها التدخلية وبذر بذور الفتن الطائفية في الدول العربية، كما أنها تغذي دور الجماعات والأحزاب غير الحكومية أو الميليشيات المسلحة وتستخدمها رأس حربة للنيل من سيادة واستقرار الدول العربية، خصوصًا بعد حدوث ما يسمى ظاهرة الربيع العربي وتدهور الحالة الأمنية في كثير من هذه الدول، لذلك فإن التأثيرات السلبية للتدخلات الإقليمية تشمل مخاطرها المجتمع والدولة معًا.
وقدرة القوى الإقليمية على اختراق الصف العربي أسهمت في منع تأسيس نظام عربي أمني موحد قادر على التصدي لهذه التدخلات. خصوصًا أن التدخلات الخارجية الإقليمية تستغل ضعف الطرف العربي، وتضارب المصالح الوطنية لكل دولة عربية، وأولوية المصالح الوطنية على المصالح القومية العليا للأمة العربية، لذا نجد أن نظام التحالفات الاستراتيجية لبعض الدول العربية قائم على التحالف مع قوى إقليمية طامحة وذات نزعة توسعية، وهذا ضد الأمن القومي العربي نفسه، ويتعارض مع استقرار الدول العربية.
كما أن ظاهرة الميليشيات المسلحة التي برزت في عدد من دول العالم العربي هي ناتج لعامل التدخلات الإقليمية الخارجية. فكون هذه الميليشيات المسلحة تتغذى على ضعف الدولة المركزية وانحلال سلطتها، يبقى العامل الأهم في توفر الدعم الخارجي الإقليمي لهذه الميليشيات التي تعمل لتنفيذ أجندات الدول الإقليمية الداعمة لها.
بينما هناك نزعة «الحياد» التي تلجأ لها بعض الدول العربية في تحديد موقفها تجاه الصراعات القائمة في العالم العربي. وفي الحقيقة لا يمكن أن يكون لـ«الحياد» مكان في مواقف تهدد الأمن القومي العربي بكامله. فمثلاً ما تمثله الأزمة الحالية في اليمن هو تهديد للأمن القومي العربي، المتمثل في تدخل فاضح وعلني لدولة إقليمية توسعية استغلت الظروف القائمة في اليمن، من أجل بناء قواعد للنفوذ والسيطرة عبر دعم ميليشيات عقائدية مسلحة تسعى للسيطرة على السلطة والدولة لحساب طرف خارجي، ولذلك فإن تشبث بعض الأطراف العربية بـ«موقف الحياد» في الصراع اليمني هو في حدّ ذاته دعم للطرف الخارجي التوسعي. وعليه فلا يمكن التضحية بمصالح الأمن القومي العربي عبر التستر بموقف «الحياد».
الثاني: اعتماد الأمن القومي لعدد من دول العالم العربي (جزئيًا أو كليًا) على عنصر الدعم الخارجي والضمانات الأمنية والدفاعية الخارجية، والفشل المستمر في التمكن من تطوير قدرات الدفاع الذاتي. وهذا العامل لا يمكن الركون إليه لكون الضمانات الخارجية عاملاً متذبذبًا وقابلاً للتغيير مع أي تغيير في الظروف أو البيئة السياسية الدولية، أو تغيير الأولويات، أو حتى في تغير الحكومات أو القيادة السياسية في الدولة المانحة للضمانات. فالضمانات الأمنية والدفاعية الخارجية (من الدول الكبرى) لا تمنح «للأمن العربي ككل»، بل تمنح لكل دولة عربية بشكل منفرد.
وفي أمرنا العربي الراهن أو الواقع، لا يوجد خطأ في الحصول على ضمانات أمنية أو دفاعية خارجية، فهذا النظام منتشر في أغلب أرجاء العالم (وليس فقط في العالم العربي)، لكن الخطأ أو القصور يكمن في الاعتماد على هذه الضمانات بكونها عنصرًا مضمونًا أو دائمًا. وعدم تطوير البدائل في حالة زوال أو تخفيض أو إخفاق هذه الضمانات. ومن المهم أيضًا ألا تتعارض هذه الضمانات الخارجية مع مسيرة وأهداف الأمن القومي العربي الجماعي.
الثالث: التركيز على «الإرهاب» بكونه المصدر الأساسي للتهديد أو المخاطر هو تقدير يفتقد للمنطق، خصوصًا إذا لم يتم التركيز على أسبابه ودوافع من يقف خلفه ويغذيه، فدون شك أن نشاطات التنظيمات الإرهابية هي مصدر تهديد، ولكن الإرهاب هو خطر قابل للاحتواء عبر تبني سلسلة من الإجراءات الأمنية والسياسية والثقافية. ولا يمكن اختزال التهديدات والمخاطر التي تواجه الأمة العربية عبر التركيز على مكافحة الإرهاب بمفهومه الغربي وإهمال المخاطر والتهديدات الأخرى التي تشكل تحديات حقيقية للدولة والمجتمع في العالم العربي. فسياسة إيران التدخلية والتوسعية تحمل أخطارًا وتهديدات ذات طبيعة استراتيجية بعيدة المدى، تهدد كيان العالم العربي وتفرض سياسة الهيمنة الإقليمية، وتفتت مجتمعاتنا العربية وتنشر بذور الصراعات الطائفية. لذا يجب أن يكون للأمن العربي الجماعي تقديراته الخاصة، المنبثقة من الواقع الإقليمي، التي على أساسها يتم ترتيب أولويات الأمن القومي العربي الجماعي، كما أن ظهور الجماعات الإرهابية العابرة للحدود تمثل خطرًا كبيرًا على الأمن العربي، وكذلك ظهور الدولة الفاشلة أو الرخوة يمثل مظهرًا شديد الخطورة على الأمن القومي العربي، وأيضًا الهجرة غير الشرعية نظرًا للظروف السائدة في المنطقة العربية ودول الجوار الأفريقي، والاتجار غير المشروع بالمخدرات، ومخاطر استخدام شبكات التواصل الاجتماعي واستخدامها وسيلة للتأثير على قطاع الشباب العربي من خلال التأثير أو إعادة تشكيل الهوية العربية للناشئة بما يأتي على حساب الموروث العربي والثقافة العربية الأصيلة والانتماء والهوية.
كل هذه المخاطر والتحديات تدعو الدول العربية إلى إعادة رسم ووضع استراتيجية أمنية عربية شاملة للتعامل مع المخاطر القائمة والمحتملة، بما يضمن استمرار الأمة ووجودها في هذا البحر المتلاطم من الصراعات، التي تستهدف الدول العربية الوطنية الحديثة، ومن ثم الأمة العربية بكاملها حضارة وشعبًا ودولاً.
* رئيس مركز الخليج للأبحاث