يجمع المكلفون بمهمة الارتقاء بمستوى الموارد البشرية في دول مجلس التعاون على أن التعليم سيبقى أحد أهم الأعمدة الأساسية التي تقوم عليها التنمية المستدامة وتعزيز القدرة على مواجهة التحديات، في عالم متسارع التغير ومتزايد التعقيد والتشابك، على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية كافة. ولكن ما أن يطرح موضوع التعليم على طاولة البحث حتى يسارع البعض إلى وضع نظارته السوداء ليحصر اهتمامه بالأزمات التي تكتنف مدخلاته ومخرجاته وعملياته، وعدم ملاءمة محتواه وإدارته، وتخلف طرائق تدريسه، ووقوعه بين فكي الرسوب والتسرب، وغياب الرؤية الشاملة له في علاقته باحتياجات سوق العمل ومنظومات التنمية الأخرى، والقائمة تطول.
وهنا يتساءل المرء، كيف لمثل هؤلاء أن يتناسوا أنه على الرغم من حداثة قطاع التعليم في دول المجلس، إلا أنه حقق قفزات كمية ونوعية متميزة. فالإحصائيات المتوافرة تؤكد أن هناك ما يزيد على ستة ملايين طالب من مواطني دول المجلس مسجلين في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، بالإضافة إلى ما يزيد على سبعمائة ألف مسجلين في التعليم العالي. إلا أن الوتيرة المتسارعة للتغيرات على الصعيدين المحلي والعالمي تجعل التعليم، شأنه شأن العديد من القطاعات الأخرى، بحاجة مستمرة للمراجعة والتقييم والتطوير لنساعد أبناءنا على اكتساب القدرة على التكيف مع هذه المتغيرات ومواجهة التحديات والاستفادة من الفرص التي يوفرها التعليم والتي تمثل الأسس الراسخة التي تقوم عليها التنمية الشاملة والمستدامة.
واقتناعاً منا بأهمية عملية المراجعة والتقييم بهدف تحقيق أفضل النتائج الممكنة في عملية التحول الاجتماعي القائمة على رؤية مستقبلية وأسس استراتيجية، فإنه لا بد من الاعتراف بأن لدى دول المجلس الكثير الذي يمكن أن تكتسبه من عملية التحديث النوعي لنظامها التعليمي؛ وذلك لمسايرة المتطلبات التي يقتضيها مجتمع المعرفة.
لقد تجسد اهتمام الجامعات في دول المجلس بالارتقاء بمستوى التعليم من خلال الحصول على الاعتماد الأكاديمي من مؤسسات أكاديمية عالمية مرموقة. كما نجحت العديد من دول المجلس في تقديم كافة التسهيلات الممكنة، وشجعت بعض أرقى الجامعات في العالم على فتح فروع لها في هذه الدول. إلا أن انطلاقة الجامعات الخليجية لا تزال تعاني بعض المعوقات التي تعترض طريقها. فقد كان لتواضع مستوى الالتزام بمعايير الجودة المتعارف عليها في الدوائر الأكاديمية، وعدم اكتمال اللوائح والتشريعات الخاصة بالمؤسسات الأكاديمية آثار سلبية على مخرجات التعليم. كما حرمت مركزية القرار التعليمي الجامعات من أن تتخذ قراراتها المناسبة. فمراعاة الاحتياجات الحقيقية للتنمية ومتطلباتها، ثم السعي بعد ذلك إلى وضع اللوائح والمقررات التعليمية لتلبيتها يبقيان دائماً أحد أهم شروط النجاح. وفي هذا السياق فإن الأولوية يجب أن تعطى للعمل على تنمية الموارد البشرية اللازمة وتشكيل الهيئات الأكاديمية المتخصصة في تقييم ومتابعة ومراقبة جودة الخدمات التعليمية والإدارية والبناء على ما تم من إنجازات في هذا المضمار.
وفي هذا السياق، فإن إيجاد قاعدة بيانات لتوفير المعلومات الضرورية سيسهم حتماً في اتخاذ القرارات السليمة والمفيدة، والتي تشجع على التعاون والتكامل. أضف إلى ذلك ضرورة تكثيف استخدام التكنولوجيا في التعليم وترسيخ قناعة الأكاديميين بضرورة مواكبة المستجدات وتحديث معلوماتهم ومشاركتهم الجادة في الأبحاث والدراسات، الأمر الذي سيعود بالفائدة على عملية التعليم ومخرجاتها. ولا يفوتني في هذا المقام التأكيد على ضرورة تبادل التجارب والخبرات فيما بين الجامعات في دول المجلس وعدم الاكتفاء بالخبرات المستوردة من الجامعات الأجنبية، والتي لا تتوافق في كثير من الأحيان مع واقع مجتمعاتنا وجامعاتنا.
على صعيد آخر، يشهد العالم الآن تحولات هائلة في النماذج الاقتصادية، فالنظم الاقتصادية القائمة على المفهوم الجغرافي، وقوانين التجارة والتعرفة الجمركية والانتشار البطيء للاكتشافات العلمية والتقنية والدورة الطويلة للإنتاج، تراجعت أمام اقتصاد المعرفة واختراق الحدود الجغرافية والانتشار السريع للعلوم والتقنيات والأشخاص ورؤوس الأموال والخدمات ووسائل الإنتاج. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة هو: كيف يمكن التعامل مع هذه البيئة الاقتصادية الجديدة؟
لقد استخدمت أنظمة التعليم، وبكثافة، تقنية المعلومات والاتصالات للارتقاء بمستوى مخرجات التعليم، إلا أن أسس تعليم الطلاب لم تتغير كثيراً، بحيث تصبح أكثر توافقاً مع التغيرات الهائلة في الاقتصاد. فلم يتم حتى الآن -على سبيل المثال لا الحصر- دمج تقنية المعلومات والاتصالات بصورة منهجية في قلب العملية التعليمية، ولا سيما في عمليات تعليم وتأهيل المعلمين أو في عمليات تطوير المناهج المدرسية.
ويتمثل التحدي الحقيقي الذي يواجه النظام التعليمي في ضرورات الانتقال من مفاهيم القرن العشرين والعمل على إصلاح هذا النظام، على النحو الذي يجعل الطلاب قادرين على امتلاك المعرفة والمهارات التي تمكنهم من التعامل مع النماذج الاقتصادية الجديدة للقرن الحادي والعشرين. ويمكن تلخيص أهم المتطلبات الجديدة فيما يلي:
* التعليم القائم على السعي الجماعي لاكتساب المعرفة والخبرة بدلاً من الاعتماد على الجهود الفردية المبعثرة.
* التعليم القائم على ضرورة اكتساب الخبرة، وإعطاء الفرصة لمراجعة الدروس والعبر المستقاة بهدف العمل على تحسينها.
* ربط التطور العلمي بعملية النمو الاقتصادي، والعمل على تحقيق هذا الترابط من خلال التنسيق، وإقامة شراكة استراتيجية بين القطاعين الحكومي والخاص بهدف إجراء تعديلات جذرية في التخطيط وصنع القرارات في القضايا التي تتعلق بالطلاب والأعمال والمجتمع.
* إن تحقيق الأهداف المرجوة في هذا الإطار يتطلب تعليم الجمهور والطلاب والمعلمين من خلال إطلاعهم على المستجدات التي طرأت على الاقتصاد العالمي الجديد ومدى تأثير ذلك في التعليم الأكاديمي وعملية التعليم التي تستمر مدى الحياة.
* وضع الأطر الصحيحة للتحولات الاقتصادية القادرة على تلبية احتياجات المجتمع خلال القرن الحادي والعشرين.
* إقامة شراكات إقليمية متينة وإنشاء شبكات لجعل التعليم أكثر توافقاً مع عملية التنمية الاقتصادية.
* التشديد على تحقيق مخرجات تعليم تتمتع بالمعرفة والمهارات، وذلك من خلال إدخال الإصلاحات المطلوبة في مراحل التعليم الأولى للأطفال صعوداً إلى التعليم العالي.
* اعتماد تقنيات ومفاهيم التعليم الجديدة ودمجها في كافة مراحل التعليم التي تقوم على نماذج تعليمية اعتمدت أصلاً على أبحاث ومعطيات جديدة تتوافق وروح ومتطلبات الاقتصاد الجديد.
وأخيراً يبقى التعليم أداة لتحقيق هدف معين، ولذلك فإن تحديد معالم وطبيعة هويتنا وتوضيح رؤيتنا وأهدافنا وأيضاً تحديد احتياجاتنا وفهم البيئة المحيطة بنا ومتغيراتها، كل ذلك سيساعدنا بالتأكيد على تحقيق الاستفادة القصوى من أداة التعليم التي طالما حققت المعجزات.