قمة (العشرين) والأجندة الخليجــــــــية
جاء انعقاد قمة العشرين في واشنطن من أجل بدء سلسلة من الاجتماعات لمناقشة الأزمة المالية التي تعصف بالعالم في الوقت الراهن. ولا شك في أن دول مجلس التعاون الخليجي سوف تشكل طرفاً مهماً في فعاليات هذه الاجتماعات. وفي الوقت الذي تمثل فيه المملكة العربية السعودية مشاركاً مباشراً محورياً، ستكون بقية دول المجلس حريصة على متابعة فحوى ونتائج المناقشات.
ومن المؤكد أن هذه الدول الخليجية تأثرت برياح الأزمة المالية على غرار العديد من بلدان العالم الأخرى، على الرغم من كونها تمتلك احتياطيات مالية هائلة باعتبار موقعها العالمي كأهم الدول المنتجة للنفط. وفي واقع الحال فإن دول مجلس التعاون سوف تتعرض بطريقة ما لضغوط متوقعة، حيث يُنتظر أن يُطلب منها لعب دور بنّاء لحلحلة الأزمة المالية الحالية. وبالفعل فقد أكد الرئيس الأمريكي جورج بوش أهمية مشاركة المملكة العربية السعودية في القمة. وبنفس المعنى، فإن رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون دعا الدول الخليجية إلى المساهمة في صندوق جديد يخطط لإنشائه تحت مظلة صندوق النقد الدولي.
ومن المهم في سياق هذه التوجهات التذكير بأن دول المجلس لعبت في الماضي دوراً مساهماً في دعم وتكريس استقرار الأسواق المالية العالمية من خلال اتخاذ قرارات استثمارية تخدم هذا الهدف أو عن طريق سعيها للحفاظ على توازن أسعار سوق النفط وانتظام تدفق الإمدادات إلى أسواق الطاقة في العالم. ومن غير المتوقع أن يطرأ أي تغيير على هذا الموقف. لذا فمن المهم ألا تنحصر دائرة المناقشات المرتقبة حول الأزمة المالية الحالية في جدول أعمال اقتصادي وحسب، بل من الضروري أيضاً أن تتناول المباحثات السياق السياسي في صورته ودلالاته الأوسع، التي تتطرق للكيفية التي يتم من خلالها التعاطي مع هذه الأزمة والطريقة التي تبلورت بها.
ويمثل هذا الجانب من الأزمة بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي بنداً مهماً على جدول الأعمال، وينبغي أيضاً للدول التي شاركت في الاجتماع، بما في ذلك الولايات المتحدة، إدراك أن التعامل مع موقع وأهمية دول مجلس التعاون الخليجي من حيث قوتها الاقتصادية لم يعد كافياً.
ولعل الدوافع للمطالبة بجدول أعمال يتجاوز الشأن الاقتصادي تتمثل في واقع أن الأزمة المالية العالمية الراهنة لا يمكن، بل لا ينبغي، التعاطي معها بمعزل عن ملابساتها وحيثياتها الأخرى. فهذه الأزمة تجسد مظهراً من مظاهر سلسلةٍ متشابكة ومتقاطعة من المشكلات التي لا تزال عالقة من دون حلٍ شافٍ، بل إن هذه الأزمة تمثل تتويجاً لتلك التطورات والمشكلات التي أدت إلى تراكم التوترات التي تؤرق مضاجع النظام السياسي والأمني والاقتصادي الدولي، وهي توترات تتسبب في إحداث شروخ واضحة وعميقة في بنية النظام الدولي.
وإذا ما أراد المرء إيجاد مقارنة للوضع القائم حالياً، فبالإمكان النظر إليه من منظور دراسة الزلازل، حيث تكون الطبقات التكتونية في حراك دائم، وتقترب من بعضها البعض أو تبتعد عن بعضها البعض. ويؤدي هذا الحراك إلى تفاقم درجات الضغط عند نقطة تلامس الطبقات، ويصبح من الضروري إيجاد طريقة لتنفيس الضغط إما عن طريق إحداث عمليات تكيف محدودة مع مستوى الضغط (وتحدث وقتها زلازل خفيفة) أو عن طريق وقوع زلازل كارثية.
إننا اليوم نشهد حدثاً مزلزلاً يقع مركزه في الولايات المتحدة وفي النظام المالي العالمي، لكن روافده وأصوله لا تنحصر في النظام المالي في الولايات المتحدة بمفردهما. فالنظام العالمي راكم ضغوطاً شديدة على مستوى الطبقات التي تشكله، وتتمثل تلك الطبقات في القائمة المدرجة أدناه، علماً بأن هذه القائمة ليست بالضرورة شاملة لكافة العناصر:
التجارة الدولية، التي شهدت خطوات متسارعة نحو تحقيق العولمة ترافقت مع حدوث تحول عمليات إنتاج السلع والمنتجات التقليدية من البلدان الصناعية لتجد لها موطئ قدم في البلدان النامية، مما أدى إلى تعميق الاختلالات التجارية، وما واكبها من مشكلات متعاظمة في أسواق العمل في البلدان الصناعية وأفول نجم الأنشطة الصناعة في تلك البلدان بشكل تدريجي. وقد بات من شبه المستحيل استمرار هذه التوجهات، بمعنى أن أي تصور مستقبلي لهذه التطورات يفرز رؤية غير مقبولة، ويطغى عليها طابع التناقض الصارخ. وبالتالي لا بد من البحث عن مخرج ما لهذه المعضلة، ليس بالضرورة من خلال تغيير كامل للسياسات الليبرالية القائمة على مبدأ تحرير الاقتصاد من أصفاده التقليدية، لكن من خلال انتهاج سياسات تؤطرها الأيديولوجية الليبرالية بدرجة محدودة ومعقولة لممارسة التجارة الحرة، مع ضرورة الإبقاء على بعض الاستثناءات والحفاظ على درجة من تدخل الدولة في الاقتصاد. ولعل بعض المؤشرات لهذا التوجه برزت فعلاً بشكل واضح في الآونة الأخيرة.
نظام الطاقة الدولي، الذي يتسم باختلال عميق بين الولايات المتحدة وبقية البلدان الصناعية على مستوى نصيب الفرد من استهلاك الطاقة، وبين البلدان الصناعية والبلدان النامية، بل هناك غياب للتوازن حتى بين الدول النامية والبلدان الفقيرة، بما في ذلك كافة دول القارة الإفريقية تقريباً، حيث لا يحصل مليارات من البشر على الإطلاق على الطاقة الخاصة بالاستخدامات التجارية. كما أن احتياطيات الوقود الأحفوري المتوفر والاعتبارات البيئية تشير بوضوح إلى أن نمط استهلاك الطاقة كما تعرفه حالياً الدول الصناعية (ومعها دول مجلس التعاون) لا يمكن تعميمه. وبالتالي فمن الضروري التفكير ملياً في السبل الكفيلة بإحداث تغيير جذري من أجل تمهيد الطريق لسيناريو مستقبلي مقبول يعالج الاختلال في مستوى نصيب الفرد من استهلاك الطاقة في العالم.
نظام الأمن الدولي، الذي اتسم منذ العقود القليلة الأخيرة بهيمنة شبه مطلقة لقوة عظمى واحدة لا ينازعها أحد على عرش قيادة العالم، لكن قوتها العسكرية الهائلة أثبتت بشكل لا يسمح بمجرد الشك أنها عقيمة على ضوء فشلها الذريع في تحقيق الأهداف المنشودة. فالولايات المتحدة لم تتمكن من كسب الحرب لا في العراق ولا في أفغانستان، ووجدت نفسها مكتوفة الأيدي في مواجهتها مع إيران. وبهذا المعنى، فإن الولايات المتحدة تبدو كالقوة العظمى عديمة الفائدة. فمن جهة تملك واشنطن القدرة والقوة لتدمير العالم، لكنها من جهة أخرى غير قادرة على فرض إرادتها الأحادية على العالم. وبالفعل، يتعذر الاستمرار في هذا النهج لأمد طويل، حيث يُرجح أن يمثل ملف الحد من انتشار الأسلحة النووية محوراً من شأنه أن يساهم في تغيير سريع لمجرى التطورات الدولية. واليوم تجد القوى النووية نفسها أمام اهتمام متصاعد باقتناء الطاقة النووية تصاحبه استحالة كبح جماح الطموحات النووية لإيران أو كوريا الشمالية أو أية دولة أخرى، وبالتالي ستضطر تلك القوى إما إلى الاعتراف بالهزيمة أو الانصياع للأمر الواقع وتقليص ترساناتها النووية. ومن ثم يُتوقع أن تعيد واشنطن في الأشهر والسنوات المقبلة التفكير في استراتيجيتها العسكرية بشكل كامل.
النظام المالي الدولي، وهو الجانب الذي يمكن اليوم استيعابه بشكل أسهل. فقد ظل النظام المالي لسنوات طويلة قائماً على أساس إلغاء القيود والضوابط التنظيمية للتبادل التجاري وتشجيع المديونية المفرطة بالنسبة للشركات والمستهلكين الأمريكيين بالموازاة مع تصاعد حجم الديون الحكومية وتزايد العجز التجاري، علماً بأن هذا التوجه كان مبنياً على فكرة أن هذه مشكلة بقية العالم، وليست مشكلة الولايات المتحدة فقط. وقد كان متوقعاً من بقية العالم أن يظل إلى الأبد راضياً وسعيداً بشراء الأصول الأمريكية ـ وهذا ما استمر عليه الوضع بشكل عام لعقود طويلة- إلا أن النظام المالي داخل الولايات المتحدة نفسها تعرض للانهيار.
ومن اللافت أن الأزمة المالية الراهنة اندلعت من داخل سوق الرهن العقاري الأمريكي، ولم تتولد عن أزمة عالمية ترتبط بتراجع الثقة بالاقتصاد الأمريكي أو الدولار. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن الوضع المالي للولايات المتحدة أصابه الوهن والهشاشة الواضحة على مدى سنوات عديدة، لكن صندوق النقد الدولي ومعه الكثيرون عبر العالم ظلوا على أمل في أن هذا النظام سوف يتعافى. غير أن التعافي المأمول تحول إلى انهيار السوق المالي العالمي، وأصبح من الضروري تأسيس قواعد جديدة للنظام المالي.
إن كل ما ذُكر أعلاه يدعم الطرح بأنه من غير الممكن معالجة الأزمة المالية الراهنة من دون التعاطي مع بعض القضايا السياسية. وبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، يستدعي هذا الواقع التركيز على مجموعة من الملفات الرئيسية على النحو التالي:
* ضرورة الحصول من الولايات المتحدة على التزام واضح بأنها سوف تدعم عملية الاندماج الإقليمي داخل منظومة دول مجلس التعاون، وكذلك بالنسبة لبقية الدول العربية، علماً بأن الولايات المتحدة لم تتعامل لفترة طويلة وبانتظام مع دول مجلس التعاون على قدم المساواة، وأصبح من الضروري اليوم أن يتم وضع حد لهذا الموقف. وضمن إطار ما سبق، ينبغي لدول مجلس التعاون الخليجي أن تسعى إلى الحصول على التزام من قبل واشنطن للعمل من أجل التوصل إلى صياغة وتفعيل نظام أمني إقليمي يقوم على أساس بناء الثقة المتبادلة بصورة تدريجية، بدلاً من التركيز على الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة.
* ضرورة الحصول على ضمانات بأن النظام التجاري الدولي سوف تتم إعادة صياغته على نحو لا يتعارض مع مصالح دول مجلس التعاون الخليجي، بمعنى أن أي نظام تجاري جديد ينبغي أن يوازي بين طابع الانفتاح على التجارة الدولية والسماح بتدخل الدولة بهدف تحقيق الأهداف الإنمائية المخطط لها. وعلى الرغم من صعوبة تطبيق هذا المبدأ إلا أن الفكرة العامة المؤطرة له واضحة.
* ضرورة الحصول على ضمانات ببذل جهود جادة لإعادة تفعيل ملف الحد من انتشار الأسلحة، بما في ذلك الدخول في مفاوضات لخفض الترسانة النووية التي تمتلكها الدول النووية بشكل ملموس والضغط على كافة الدول للتوقيع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية.
* ضرورة الحصول على ضمانات بألا يسمح النظام المالي الدولي الجديد بحدوث اختلالات منهجية حتى في الولايات المتحدة، وبأن تتمتع الاستثمارات الدولية بالحرية ضمن إطار قواعد واضحة، من دون ممارسة أي تمييز ضد صناديق الثروة السيادية.
ضرورة مطالبة الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بدعم المبادرات الدبلوماسية الرئيسية التي أطلقتها المملكة العربية السعودية وترتبط كلها بالأزمة الإقليمية، وهي:
* مبادرة الملك عبدالله (التي أصبحت مبادرة عربية) لحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
* موقف الحكومة السعودية إزاء بناء عراق موحد تشارك جميع أطيافه في الحكم ومن دون أي تدخل خارجي.
* المبادرة السعودية للتعامل مع إيران في سياق إقليمي شامل يضم إيران والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي.
* مبادرة الملك عبدالله للحوار بين الأديان.
* دعم الجهود السعودية في رعاية الحوار بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان.
ومن الواضح أن كافة النقاط المذكورة أعلاه تمثل جوانب أساسية تعكس رؤية شاملة تتطلب من دول مجلس التعاون الخليجي مواصلة المناقشة بشأنها ضمن إطار المباحثات حول الأزمة المالية العالمية الحالية، خاصة أن الحلول الفردية والمجزأة لم ولن تحقق النجاح المنشود، علماً بأن الوقت قد حان فعلاً لاعتماد مقاربة شاملة.