الخليج بين مصداقية أمريكا وحقيقة البرنامج النووي الإيــــراني
من نافل القول إن تطوير إيران لقدرات نووية عسكرية هو قضية تقع في صميم اهتمامات الدول العربية بصفة عامة ودول مجلس التعاون الخليجي على وجه الخصوص، باعتبارها تمس أمن وسلامة هذه الدول قبل أن تمس أمن أو سلامة الولايات المتحدة، لذا فهي قضيتها في المقام الأول. فالعرب أدركوا اليوم حقيقة مؤلمة مفادها أن العديد من الدول غير العربية المحيطة بالوطن العربي إما أنها امتلكت السلاح النووي أو تسعى جاهدة إلى امتلاكه. فإسرائيل والهند وباكستان دخلت النادي النووي من بابه الواسع قبل سنوات عديدة، أما بالنسبة لإيران، وبغض النظر عن اللغط بشأن برنامجها النووي، فإنها تتطلع لعضوية هذا النادي. بالمقابل لا توجد دولة عربية واحدة فكّرت بشكل جدي في هذا الأمر. وهذه ليست دعوة إلى الدول العربية للعمل على امتلاك السلاح النووي، كما هي الحال بالنسبة للذين امتلكوا هذا السلاح أو الساعين إلى امتلاكه، ولكنها إقرار بحقيقة مؤلمة تدل على مدى تخلف الأمة العربية في مجال التفكير الاستراتيجي بعيد المدى، وهو داء خطير تعاني منه الدول العربية بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة. فجيراننا واثقون بغياب التخطيط الاستراتيجي لدينا وقصور نظرنا وتشرذمنا، ولا يتوقعون صحوة مفاجئة تحقق نوعاً من توازن القوى في المنطقة.
ويأتي هذا الحديث على خلفية صدور تقرير مخابراتي أمريكي يقول باختصار (إن إيران أوقفت برنامجها النووي العسكري الهادف إلى تطوير قنبلة نووية في خريف عام 2003). وبالنسبة للعرب فإن بيت القصيد يكمن بالتحديد في هذه الجملة، حيث تؤكد أن إيران كانت تمتلك برنامجاً سرياً لصناعة القنبلة النووية على الرغم من الإنكار الإيراني الرسمي لذلك وحملة الضجيج التي قام بها المسؤولون الإيرانيون للتأكيد على أن إيران لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية. ونحن كعرب ودول مجاورة لإيران ماذا يعني لنا القول (إن إيران (أوقفت) برنامج تطوير القنبلة النووية)، فإيقاف البرنامج نتيجة للضغوط الدولية المتراكمة لا يعني بأي حال من الأحوال أن إيران (تخلت) عن هذا البرنامج بشكل نهائي. والشيء المقلق هنا هو التصميم الإيراني على امتلاك القنبلة النووية، والذي على ما يبدو أنه تم تجميده مؤقتاً إلى حين عبور أو تلاشي عاصفة الاحتجاجات والعقوبات الدولية.
والسؤال الأساسي الذي لم يطرحه التقرير من وجهة نظرنا هو: متى ستقوم إيران بإعادة تفعيل برنامجها الرامي إلى تطوير القنبلة النووية؟ ففي ظل التصميم الإيراني بهذا الخصوص تبقى قضية إعادة تفعيل البرنامج مجرد مسألة وقت تنتظر تغير الظروف، وتوفر بيئة مناسبة أقل حدة في موقفها من (إيران النووية). والأرجح أن هذا اليوم ليس بعيداً في ظل التطورات الداخلية، القائمة والمحتملة، على الساحة الأمريكية، وتدهور قدرات وهيبة الولايات المتحدة، وعجز الدول الأوروبية، وتراخي الدول الكبرى الأخرى كروسيا والصين. وقد رحبت القيادات الإيرانية بالتقرير الأمريكي، ولم تعترض على الاستنتاج القائل إن إيران كانت تسعى إلى لتطوير القنبلة النووية حتى عام 2003، وهو اعتراف ضمني بكونها كانت فعلياً تقوم بهذا النشاط.
ولنعد إلى قصة التقرير، ففي يوم الثالث من ديسمبر الماضى قام (مجلس المخابرات الوطنية) (NIC) في الولايات المتحدة بإصدار تقريره الذي طال انتظاره حول ملف برنامج إيران النووي. وتكمن أهمية التقرير في كونه صادراً عن أعلى هيئة مخابراتية في الولايات المتحدة الأمريكية. فمدير المخابرات الوطنية يُعد المسؤول الرئيسي في الهيكل المخابراتي في الولايات المتحدة، وهو هيكل واسع ومتعدد الهيئات والوكالات، حيث يقارب عددها الست عشرة هيئة مخابراتية مستقلة ومتخصصة، ولا تُعّد وكالة المخابرات المركزية الـ (سي. آي. إيه) إلا واحدة من الهيئات التابعة لمجلس المخابرات الوطنية الذي منذ تأسيسه في عام 1973 فإنه تولى القيام بدور حلقة الوصل بين المجتمع المخابراتي الأمريكي من ناحية وصناع القرار السياسي في واشنطن الممثلين في السلطة التنفيذية (الرئيس) والسلطة التشريعية (الكونغرس) من ناحية أخرى.
ولا يزال مجلس المخابرات الوطنية يعيش محمّلاً بتبعات تقريره الذي أصدره في أواخر عام 2002، والذي ارتكب من خلاله خطأً قاتلاً عبر تأكيده على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وهو التقرير الذي استند إليه الكونغرس في تخويل إدارة الرئيس بوش بغزو العراق واحتلاله. ومما يستوجب ذكره أن التقرير الجديد للمجلس حول إيران جاء على خلفية تقرير سابق له كان قد صدر في مايو 2005، وأشار فيه إلى استمرار مساعي إيران إلى تطوير قدراتها الذاتية لامتلاك القنبلة النووية. وعلى الرغم من أن التقرير الجديد أشار في فقراته الأخرى إلى أن (إيران أبقت خياراتها مفتوحة لتطوير الأسلحة النووية في المستقبل)، فإن ما شغل أغلب المحللين هو إشارة التقرير إلى توقف البرنامج النووي العسكري الإيراني منذ عام 2003.
وفي حقيقة الأمر، فإن إدارة الرئيس بوش الحالية أو الإدارة الأمريكية القادمة لا يمكنها تجاهل مضمون هذا التقرير. فتوقيت نشره يتزامن مع اشتداد التنافس في حملات الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتزايد حالة الوهن والضعف التي أصابت إدارة الرئيس بوش للتخبط في المأزق العراقي، كما يتزامن مع تبلور تحفظات علنية وسرية تجاه القيام بعمل عسكري أمريكي ضد إيران. وهذه التحفظات تعبر عن موقف بعض القيادات السياسية والعسكرية الأمريكية المتنفذة ضمن الإدارة الحالية وخارجها، والتي لا تجد جدوى أو مبرراً للقيام بعمل عسكري ضد إيران خلال هذه المرحلة، أو استناداً إلى أدلة ليست قاطعة وغير موثق بها.
كما يأتي هذا التقرير في سياق بعض التصريحات التي عبّرت عنها قيادات سياسية أمريكية، والتي أشارت فيها علناً إلى دعمها لفكرة قيام محادثات مباشرة وغير مشروطة مع الحكومة الإيرانية من أجل تسوية قضية الملف النووي الإيراني إلى جانب القضايا الأخرى العالقة بين الدولتين.
ويخلص التقرير في أحد بنوده إلى أن قرار إيران بإيقاف برنامجها لتطوير القنبلة النووية جاء نتيجة لمخاوف القيادة الإيرانية من تبعات وتداعيات العقوبات والضغوط الدولية التي قد تُفرض على إيران في حالة استمرارها في برنامجها العسكري. ولكن هذا التقرير جاء في وقت حرج؛ حيث ستكون له تأثيراته السلبية القائمة والمحتملة على الجهود الأمريكية – الأوروبية الهادفة إلى تشديد العقوبات الدولية المفروضة على طهران من خلال قراري مجلس الأمن الدولي رقم (1737) و(1747) اللذين طالب من خلالهما المجتمع الدولي حكومة إيران، وبإجماع أصوات أعضاء مجلس الأمن وعلى رأسهم الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية، بوجوب الإيقاف التام والشامل لكل عمليات تخصيب اليورانيوم الجارية داخل إيران. وقد مرّ عام كامل على صدور قرار المجلس الأول (صدر في ديسمبر 2006)، ولم تنصَع القيادة الإيرانية لمتطلبات القرار، مما اضطر المجلس الى إصدار قراره الثاني في فبراير 2007، ولا تزال إيران مصرّة على تحدي القرارات الدولية.
كما أن عجز مجلس الأمن الدولي عن إجبار إيران على تنفيذ القرارات المتعلقة بمطلب إيقاف نشاطات التخصيب يُعد أمراً مقلقاً، خاصة في ظل وجود عوامل أخرى تضعف من الضغوط الدولية على إيران والهادفة إلى التحقق وضمان المحافظة على الطبيعة المدنية والسلمية لبرنامجها النووي. فالفوضى العارمة التي تلف السياسية الأمريكية اليوم، والتراجع الواضح في هيبة الولايات المتحدة وقدراتها، إلى جانب الغموض الذي يلف طبيعة وأولويات ومواقف الإدارة الأمريكية القادمة التي ستخلف إدارة بوش الحالية، ناهيك عن تراخي الدول الكبرى الأخرى وتضارب مصالحها، كل هذه العوامل قد تشجع وتمنح إيران فرصة ذهبية جديدة لإعادة تفعيل برنامجها العسكري الهادف إلى امتلاك القنبلة النووية. ومثل هذا السيناريو يجب ألا يغيب عن الدول المعنية بهذا الملف، وفي مقدمتها الدول العربية بصفة عامة ودول مجلس التعاون الخليجي بصفة خاصة، حتى لا تجد نفسها أمام قوة نووية جديدة في المنطقة، لا سيما أن هذه الدول تؤكد على أهمية وضرورة جعل منطقة الشرق الأوسط برمتها خالية من أسلحة الدمار الشامل.