Author name: Soliman M

Articles

إيران ومجلس الأمن الـــــــدولي

يقف مجلس الأمن الدولي خلال الأيام وربما الأشهر المقبلة أمام مفترق طرق خطير يستوجب منه العمل وبشكل حازم لمنع إيران من استغلال برنامجها النووي السلمي بهدف تطوير القدرات النووية العسكرية، وهو توجه يبدو مخالفاً لتعهدات الدولة المنصوص عليها في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، والتي كانت إيران من أولى الدول الموقعة عليها، حيث قبلت وتعهدت بشكل طوعي بمبدأ عدم تطوير أي نوع من أنواع الأسلحة النووية. وقد جاء تـعـامُـل مجلس الأمن الدولي مع ملف إيران النووي على مراحل، بدأت بلفت الانتباه وحثّ إيران على احترام تعهداتها والتعاون الكامل مع متطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ وهذا الأسلوب كان محور البيان الرئاسي الذي صدر عن المجلس في التاسع والعشرين من مارس من هذا العام، ثم تبعته المرحلة الثانية التي تمثلت بصدور إنذار محدد جاء عبر قرار مجلس الأمن الدولي (رقم 1696) الصادر في الحادي والثلاثين من يوليو 2006، والذي منح إيران مهلة شهر واحد (تنتهي في الحادي والثلاثين من أغسطس 2006) للاستجابة لطلبات الوكالة الدولة المتمثلة بالتعاون التام والتعهد بالتخلي كلياً عن عمليات تخصيب اليورانيوم والنشاطات الأخرى المرتبطة بها.
وفي الحقيقة، لم يأتِ قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي صدر في الرابع من فبراير 2006 بتحويل ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن الدولي، بمفاجأة كبيرة لكل متابع لتطورات الخلاف والمواجهة بين إيران والمجتمع الدولي الدائر حول حقيقة النوايا والمضمون الشامل لبرنامج الدولة النووي. فالوكالة الدولية تعلمت دروساً قاسية، وعانت من فقدان المصداقية خلال الأعوام السابقة عبر إخفاقها في اكتشاف وتحديد دوافع البرنامج النووي العراقي ثم في فشلها في التعامل مع نشاطات البرنامج النووي لكوريا الشمالية. لذا، فإن الاستراتيجية الجديدة للوكالة تقوم على أساس أن الشك الناجم عن الغموض والمراوغة اللذين تمارسهما أية دولة من الدول الأعضاء في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية يُعـَـد سبباً كافياً للتحرك ضدها بحزم. وهنا، يكمن المحور الأساسي للمواجهة بين إيران والوكالة الدولية، ومن ثم مجلس الأمن الدولي. فالقيادات الإيرانية، وعلى جميع مستوياتها، أكدت مراراً وتكراراً أن برنامج طهران النووي هو لأغراض سلمية ومدنية بحتة، ولا نية لدى الدولة في تطوير القدرات النووية العسكرية. وهنا، تتشبث إيران بما تعتبره حقها غير المنقوص في تخصيب اليورانيوم وحقها في امتلاك برنامج تطوير نووي ضمن إطار الشرعية الدولية، وهو الحق الذي ضمنته معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لجميع الدول الأعضاء في المعاهدة، ونصّت عليه المادة الرابعة من الاتفاقية. وتؤكد إيران أنها غير مستعدة للتخلي عن هذا الحق تحت أي ظرف من الظروف بناءً على حق الدولة في امتلاك برنامج نووي للأغراض السلمية والحاجات المدنية، والذي تم تثبيته كحق غير قابل للمساومة في مضمون نص المادة الرابعة من المعاهدة التي تنص على الآتي:
(يحظـَـر تفسير أي حكم من أحكام هذه المعاهدة بما يفيد إخلاله بالحقوق غير القابلة للتصرف التي تملكها جميع الدول الأطراف في المعاهدة في إنماء بحث وإنتاج واستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية من دون أي تمييز ووفقاً للمادتين الأولى والثانية من هذه المعاهدة).
ولكن للحقيقة وجهاً آخر كشفته قرارات مجلس محافظي الوكالة الدولية وتقارير مديرها العام عندما تمت الإشارة إلى الخلاف مع إيران باعتباره (حالة تحقيق خاصة) مردها عدم حصول مفتشي الوكالة على التعاون الكامل من الجانب الإيراني وعدم قدرة أو رغبة الجانب الإيراني في تقديم أجوبة مقنعة وتامة عن التساؤلات المشروعة التي قدمها فريق مفتشي الوكالة مراراً وتكراراً. فقرار الوكالة بإحالة ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن الدولي، الذي دعمه التقرير المفصل لمديرها العام الذي تم تقديمه إلى مجلس الأمن الدولي في الثامن والعشرين من فبراير 2006 جاء نتيجة اقتناع تام من قبل مجلس محافظي الوكالة ومديرها بأن الوكالة، كهيئة استشارية لا تمتلك سلطات عقابية أو ردعية، عجزت عن تحقيق وضمان التعامل الفعال والمثمر مع إيران في غياب (الشفافية التامة من جانب إيران)، وأنها غير قادرة على إحراز تقدم بسبب الموقف الإيراني غير المتعاون. لذا، فإن قرار إحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولي هو نتيجة طبيعية للعوائق التي وضعتها إيران أمام عمل الوكالة. ولا يُعتبـَـر مجلس المحافظين مؤسسة أمريكية، كما يحاول أن يصوره البعض، فهو الهيئة الأساسية التي تمثل صناعة القرار في الوكالة، وتضم ثلاثة وثلاثين ممثلاً من الدول الأعضاء في الوكالة (وعددها الكلي 139 دولة)، منهم اثنان وعشرون محافظاً يتم انتخابهم لدورة عامين، ويمثلون التوزيع الجغرافي والسياسي في العالم.
فقرار مجلس المحافظين الذي صدر في الرابع من فبراير 2006، بعد يومين من النقاش والتداول المكثف، والذي أمسى اليوم الأساس لتفعيل آلية مجلس الأمن ضد إيران أكد – وهنا أورد الاقتباس المباشر من نص التقرير – (أنه وبعد قرابة ثلاث سنوات من أنشطة التحقيق المكثفة ليست الوكالة بعد في وضع يسمح لها بأن توضح بعض القضايا المهمة المتعلقة ببرنامج إيران النووي أو أن تستنتج أنه لا توجد في إيران أي مواد أو أنشطة نووية غير معلنة). وهنا، أشار التقرير إلى حالة انعدام الثقة السائدة بين إيران والوكالة ، حيث ورد في التقرير أن مجلس المحافظين (يذكـّـر بحالات الإخفاق والانتهاك العديدة من جانب إيران لالتزاماتها بأن تمتثل لاتفاق الضمانات المعقود معها ضمن إطار معاهدة عدم الانتشار، وبانعدام الثقة بأن برنامج إيران النووي هو حصراً للأغراض السلمية، وذلك نتيجة لإخفاء أنشطة إيران النووية وطبيعة تلك الأنشطة).
ويبدو واضحاً أن الملف النووي الإيراني لا يزال مفتوحاً على الاحتمالات كافة. ولا يسعنا في هذا المقام إلاّ أن نؤكد مجدداً ضرورة تخلي مجلس الأمن عن انتقائيته في تطبيق القرارات، فهو يطبقها تحت البند السابع عندما يشاء، ويغضّ الطرف كلياً عن دول طالما رفضت الالتزام بقرارات الشرعية الدولية. وبينما تصر جميع دول منطقة الخليج على ضرورة جعل منطقة الشرق الأوسط برمتها خالية من أسلحة الدمار الشامل، فإنها تتمنى من إيران وجميع الأطراف المعنية الأخرى أن تتحلى بالصبر والحكمة، وتتجنب الوقوع في حسابات خاطئة. إذ إن من شأن مثل هذا التوجه أن يعمل على تجنيب دول المنطقة وشعوبها ويلات المواجهة العسكرية التي لن تطال أطراف النـزاع المباشرين وحسب، بل ستطال أيضاً أمن المنطقة واستقرارها واقتصادها، الأمر الذي سينعكس حتماً على أمن واستقرار وازدهار العالم.

Articles

لبنان على طريق التسوية النـــــهائية

إذا كانت الحرب استمراراً وامتداداً للدبلوماسية بوسائل أخرى، فإن الحرب الإسرائيلية المستعرة الآن على لبنان اتسمت بحقد أعمى وسادية مفرطة. فمنذ بداية هذه الحرب حتى كتابة هذه السطور قامت إسرائيل بتنفيذ ما يزيد على أربعة آلاف غارة جوية على معظم أرجاء لبنان، رافقتها ضربات صاروخية من البوارج الإسرائيلية الرابضة قبالة السواحل اللبنانية، إضافة إلى قصف متواصل من سلاح المدفعية الإسرائيلية لقرى ومدن الجنوب اللبناني، ووقع ضحية هذه العمليات ما يزيد على خمسمائة قتيل وخمسة آلاف جريح، وهُجِّر أكثر من نصف مليون مواطن، بالإضافة إلى التدمير الهائل للبنية التحتية ولمناطق سكنية شاسعة في الجنوب اللبناني وما يعرف بضاحية بيروت الجنوبية.
إن الاستخدام المفرط للقوة والعقاب الجماعي لمعظم فئات الشعب اللبناني ودك بنيته التحتية لا يمكن أن تكون كل هذه الأعمال مجرد رد فعل على قيام حزب الله بخطف جنديين إسرائيليين بهدف تحرير الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، ولكن إسرائيل تريد أن تؤكد أن أحداً من العرب لن يستطيع أن يحصل من إسرائيل على تنازلات بالقوة، وخصوصاً بعدما قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000 نتيجة لعمليات المقاومة.
لقد نشأ حزب الله كحركة مقاوِمةٍ بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، وأعلن عن نفسه رسمياً عام 1985، وقد اتخذ المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان شعاراً له؛ تلك المقاومة التي اعتُبرت مشروعة لبنانياً وعربياً ولدى كثير من أعضاء المجتمع الدولي، في وقت كانت فيه الحكومة اللبنانية تعاني ضعفاً شديداً وفاعليةً شبه معدومة وقراراً شبه غائب. وعلى الرغم من الدعم الإيراني والسوري لحزب الله، فإنه نجح إلى حدٍّ كبير في الحفاظ على لبنانيته واستقلالية قراره؛ كما أن سلاح الحزب لم يُوَجّه مطلقاً إلى الجبهة الداخلية في لبنان، ولم يُستخدم إلا في الدفاع عن لبنان أرضاً وشعباً، إضافة إلى أن الحزب لم يتدخل يوماً في الشؤون الداخلية لأية دولة مجاورة أو غير مجاورة.
وحقق حزب الله خلال مسيرته إنجازات مهمة يأتي على رأسها نجاحه في إلحاق الهزيمة بالجيش الإسرائيلي في لبنان وتحريره للجنوب اللبناني بعد احتلال دام نحو 18 عاماً، كما أنه نجح في عقد عدد من الصفقات الناجحة لتبادل الأسرى. لكن الظروف المحيطة بهذه الحرب اختلفت كثيراً عما كان جارياً أيام تحرير الجنوب، فبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وصدور قرار مجلس الأمن (1559) وخروج سوريا من لبنان، تعثر الحوار الوطني بين أقطاب الحكم الجديد في لبنان حول مسألة سلاح حزب الله لتبقى هذه النقطة من قرار مجلس الأمن المذكور عالقة بانتظار إيجاد حل داخلي سلمي لها. بالإضافة إلى أن الممارسات الإسرائيلية في فلسطين والآن في لبنان، تؤكد بكل جلاء أن إسرائيل تتجه نحو تصفية أي مقاومة لها أياً كان مصدرها في الداخل والخارج، مستغلةً الأوضاع المتفجرة وغير المستقرة في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً في العراق الذي وقع في قبضة الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني منذ عام 2003، وفي إيران المنخرطة حالياً في تجاذبات سياسية مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بشأن ملفها النووي. وقد بدا واضحاً أن الولايات المتحدة تقدم الغطاء والدعم اللازمين لإسرائيل لكي تقوم بإنجاز مهمة القضاء على حزب الله نيابة عنها، حتى تستطيع هي إعادة ترتيب أوراق الشرق الأوسط حسب رؤيتها ومصالحها بعد أن تكون قد نزعت ورقة حزب الله من يد كلٍّ من سوريا وإيران اللتين تعتبرهما حجر عثرة في طريق تحقيق رؤيتها الاستراتيجية للمنطقة، في ظل عجز شبه تام للأمم المتحدة.
إن الحرب الإسرائيلية المسرفة قتلاً وتدميراً همجياً ضد شعب لبنان وأرضه هذه الأيام، لا يمكن أن تكون حرباً من أجل أسيرين اختطفهما حزب الله الذي لربما أخطأ في تقدير رد الفعل الإسرائيلي. إذ إن نظرةً إلى ما يمكن أن يكون مبيتاً وراء الأهداف المعلنة لهذه الحرب ربما تقودنا إلى نوايا أعمق لم يتم التصريح بها؛ فنحن أمام تدمير منظّم لمكونات الدولة اللبنانية، يتم تحت غطاء سياسي ودعم عسكري أمريكيين، بالإضافة إلى جهود الولايات المتحدة في عرقلة أي وقف فوري لإطلاق النار لتمكين إسرائيل من إكمال مهمة القضاء على حزب الله، الأمر الذي يعد هدفاً مُعلناً لكلٍّ من الدولتين (إسرائيل وأمريكا) وذلك بإزالة التهديد الأمني الذي يمثله الحزب للأولى، وبإسقاط نقطة القوة التي كان يعطيها الحزب لإيران وسوريا في مواجهة الثانية.
كما أن تزامن الحرب الإسرائيلية على لبنان مع العمليات العسكرية العنيفة التي تقوم بها إسرائيل على حركة حماس في قطاع غزة في وقت واحد، يؤكد لنا إسرائيل تقوم بعملية تصفية لجميع القوى التي تناصبها وواشنطن العداء؛ وقد استغلت إسرائيل رد الفعل الرسمي العربي الذي جاء هزيلاً وخالياً من أي إجراءات تدفعها إلى التفكير في وقف لإطلاق النار. وبطبيعة الحال يلوح في العمق هدف أمريكي ـ إسرائيلي مشترك من وراء هذه العمليات الحربية الإسرائيلية، وهو الوصول إلى شرق أوسط تدور دوله في فلك المحور الأمريكي ـ الإسرائيلي، لا مقاومة فيه ولا (إرهاب) بحسب التعريف الأمريكي والإسرائيلي له، منزوعة فيه أسلحة الدمار الشامل من جميع دوله باستثناء إسرائيل، ويضمن تدفق النفط للولايات المتحدة وحلفائها بأسعار معقولة طبقاً لحساباتها السياسية والاقتصادية.
إن ثلاثة عشر يوماً دامية من العدوان الإسرائيلي على لبنان، يبدو أنها قد رست به أمام سيناريوهات ثلاثة محتملة لانتهائه: الأول؛ هزيمة ساحقة لحزب الله يكون مؤشرها فقدان الحزب قدرته على إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل، مما يمكن الأخيرة من فرض شروطها، ولكنه ليس بالأمر السهل إطلاقاً. أما الثاني، فهو تحقيق إسرائيل إنجازاً عسكرياً محدوداً يحفظ لها ماء وجهها، ويسمح بتحرك دبلوماسي لتسوية كاملة تتبناها واشنطن توافق عليها إسرائيل ولبنان، بحيث يكون أهم بنودها إبعاد الحزب عن الحدود إما بنشر الجيش اللبناني عليها أو الاستعانة بقوات دولية، ويبدو هذا السيناريو هو الأرجح حتى الآن. أما السيناريو الأخير فهو قيام إسرائيل باجتياح لبنان وإعادة احتلاله أو احتلال جنوبه مع استمرار المقاومة في ظل ضعف ظاهر للدولة اللبنانية.
إن تبعات هذه الحرب قد لا تتوقف مع انتهائها حتى لو كان هذا في القريب العاجل، فتداعيات الحرب وانعكاساتها بدأت منذ اللحظة الأولى وعلى مختلف الصعد، ولا شك في أن كثيراً من هذه الآثار يتسم بطول الأمد. فعلى الساحة اللبنانية أضعفت هذه الحرب الدولة اللبنانية بشكل كبير وشلت معظم أركانها، كما أن الدمار الحاصل جراء الحرب قد يحتاج إلى سنوات من الإعمار ومليارات من الدولارات لتعويضه. وعلى مستوى الشعب فإن الحرب عززت الوحدة الوطنية اللبنانية، ولكنها في الوقت نفسه عمّقت حساسية اللبنانيين تجاه الدول العربية التي لم تتخذ موقفاً حاسماً في مساندة الشعب اللبناني وهو يتعرض للمجازر، وتتعرض بلاده لتقطيع الأوصال. أما في حالة تبني تسوية يتم فيها إقصاء حزب الله بما يخدم المصالح الإسرائيلية والأمريكية، فإن الوحدة الوطنية التي رسختها الحرب، قد تتفكك وتنهار بعد إنهاء الحرب بهذه الطريقة، وقد يظهر أكثر من حزب الله. ولكن حتى في حال التوصل إلى تسوية تبقي على حزب الله ضمن المعادلة اللبنانية، فإنه من غير المتصور بعد هذه الحرب أن تعود علاقة الحزب بالدولة الحالية كما كانت قبلها، ذلك أن التكلفة المادية والسياسية والاجتماعية للحرب باهظة جداً.
أما على الساحة العربية، فإن هذه الحرب رسّخت تبعية بعض الدول الرئيسية في المنطقة لواشنطن مقابل صمت الأخيرة عن أوضاعها الداخلية، وهذا سيجر إلى مواصلة بعض الدول عملية تطبيع العلاقات مع إسرائيل على المستوى الرسمي. ولكن في المقابل أوجدت الحرب شرخاً كبيراً ينذر بتحديات داخلية بين بعض الأنظمة الحاكمة وبين شعوبها، وذلك لتناقض المواقف الرسمية والعملية لتلك الأنظمة مع بعض أهم المبادئ والرؤى والرغبات الشعبية في دولها. وعلى الصعيد الاقتصادي العربي فقد سببت الحرب ارتفاعاً قياسياً في أسعار النفط، وأثرت في البورصات وأسواق المال في العديد من الدول.
ولكن على الجانب المقابل، فإن أي نصر لإسرائيل في هذه الحرب سيعتبر هزيمة لا سيما بعد المقاومة الشديدة التي أظهرها حزب الله، الذي يبقى محدود القدرات بشكل كبير في مواجهة دولة من أعتى دول المنطقة على الصعيد العسكري؛ كما أظهرت الحرب أيضاً هشاشة نظرية الأمن الإسرائيلي، بل هي على وشك إسقاطها، حيث أثبتت أن التفوق العسكري لا يحقق الأمن بالضرورة.
ونحن نبحث عن حلٍ يجنّب اللبنانيين الأبرياء المزيد من القتل والتدمير، لا بد من القول إن حزب الله لم يقفز فوق الدولة، وسمح لنفسه أن يتخذ قراراً بالحرب على إسرائيل وحسب، ولكنه أيضاً لم يوفق، هذه المرة على الأقل، في قراءة الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية بشكل صحيح. وإذ نحرص على التأكيد أن هذا الانتقاد يجب ألاّ يفهم على أنه تبرير للعدوان أو انتقاص من حق مقاومة الاحتلال، نُشدد على ضرورة إيجاد حل عادل وشامل ونهائي يرضي جميع الأطراف؛ وبالتالي فإنه على المجتمع الدولي بذل كل جهد ممكن للتوصل إلى وقف لإطلاق النار حتى يتم فسح المجال أمام مفاوضات لتبادل الأسرى ومن ثم إدماج بعض من قوات حزب الله وسلاحه في الجيش اللبناني، الأمر الذي سيعزز من دور الدولة واستعادتها لسيادتها على كافة الأراضي اللبنانية، ونشر قوات دولية على الحدود قادرة على منع الخروقات الجوية والبرية والبحرية الإسرائيلية للأراضي اللبنانية، ورفع قضية مزارع شبعا لمحكمة العدل الدولية تمهيداً لرسم حدود نهائية بين لبنان وإسرائيل.

Articles

المياه.. كتحدي استـــــــراتيجي

موارد المياه هي أساس الحياة وعصب التنمية، فالماء ضروري لحياة الإنسان والحيوان والنبات على حد سواء ومن دونه لا يمكن استمرار دورة التوازن البيئي في الطبيعة. وعلى الرغم من وجود أنهار وبحيرات في الوطن العربي توفر مصادر للمياه الطبيعية الصالحة لمختلف الأغراض سواءً للشرب أو الزراعة أو الصناعة أو غيرها من أوجه التنمية، إلا أن جميع تلك المصادر ليست عربية خالصة، إذ تنبع دائماً في أراضٍ غير عربية؛ وتقدّر كمية المياه الواردة من خارج الأراضي العربية بنحو 62 في المائة من إجمالي الموارد المائية المتاحة عربياً، كما أن معظم إن لم يكن كل الأنهار والقنوات الرافدة من خارج العالم العربي هي موضع خلاف قانوني أو سياسي بين نقاط المصب، أي الأطراف العربية التي تعتمد عليها كمورد مائي رئيسي، ونقاط المنبع، أي الأطراف الإقليمية التي تبدأ تلك القنوات والأنهار من أراضيها.
ومع أن الوضع في منطقة الخليج العربي مختلف كثيراً إلا أن النتيجة واحدة، فالمشكلة المائية مشكلة طبيعية وليست سياسية، حيث تصنف دول مجلس التعاون الخليجي بأنها تقع ضمن المناطق الجافة وشبه الجافة بين دول العالم، وتفتقر إلى وجود مصادر مائية متجددة كالأنهار والبحيرات والمياه السطحية بشكل عام؛ وتتعرض موارد المياه في دول مجلس التعاون إلى قدر هائل من الضغوط في الوقت الحاضر، حيث تعتمد دول المجلس على المياه الجوفية سواء السطحية أو العميقة وبعض العيون والينابيع والأفلاج، التي بدأت تغور مياهها لعدة أسباب، منها سوء الاستخدام والصيانة، واستنـزاف مياهها غير المتجددة، كما في واحات الخرج والأفلاج والإحساء والقطيف في المملكة العربية السعودية، والأفلاج التي تستخدم في بعض المناطق لري المزروعات في سلطنة عمان، ومياه الأمطار التي تحجز السدود لأغراض الشرب والزراعة أو لتغذية المياه الجوفية. ولذلك تُعتبَر عمليات تحلية المياه وإعادة استخدام مياه الصرف المعالجة من بين أكثر البدائل الناجحة، حيث إن دول مجلس التعاون الخليجي تستخدم وحدها ما يصل إلى نصف الطاقة العالمية من مياه التحلية.
وتمثل مشكلة نقص المياه تحدياً عربياً، وليس خليجياً فحسب، فالمنطقة العربية هي من أكثر مناطق العالم المتوقع لها مواجهة مشكلة مائية خلال المستقبل القريب؛ إذ تشير توقعات الخبراء إلى أن العجز المائي لدى الدول العربية سيتراوح سنة 2030 بين 100 و133 مليار متر مكعب سنوياً.
وما يزيد المشكلة تعقيداً في دول مجلس التعاون أنه في مقابل محدودية الموارد المائية المتاحة، فإن حجم الطلب عليها يتزايد بشكل مطرد وبمعدل متضاعف من سنة إلى أخرى، نتيجة عدة عوامل على رأسها النمو السكاني السريع والزحف الحضري والمستويات العالية من الاستهلاك الفردي من الماء. ويتراوح المعدل اليومي لاستهلاك الفرد من الماء في منطقة الخليج بين 300 و750 ليتراً، وهي المعدلات الأعلى في العالم كله. وتُعتبَر المصادر المتجددة من المياه في منطقة الخليج في الوقت الحالي أدنى من النسبة الحرجة البالغة 1000 متر مكعب سنوياً للفرد، والتي تُستخدَم كمؤشر إلى وجود أزمة مزمنة في المياه. ولا تزال الزراعة تمثل القطاع الرئيسي في استهلاك المياه في المنطقة، وذلك على الرغم من مساهمتها الهزيلة في إجمالي الناتج المحلي، حيث ازداد استهلاك المياه في الزراعة من 73.5 مليار متر مكعب في عام 1990 إلى 90 مليار متر مكعب في عام 2000. أضف إلى ما سبق أيضاً القلق على مستوى جودة المياه، التي في بعض الأحيان تكون دون المستوى المرغوب خاصة من بعض محطات التحلية التي تقادمت.
وبينما تحسن التركيز على دمج إدارة الموارد المائية، وهي عملية تأخذ في الحسبان الحصص المختلفة للقطاعات المتعددة في خطوات التخطيط المائي وخطط التنمية والإدارة، فإن المؤسسات التي تتعامل في الشؤون المائية تعاني من حالة ضعف عامة، ويعود ذلك إلى عدم كفاية القدرات التقنية وضعف التنسيق بين السلطات المعنية بالمياه حتى داخل الدولة الواحدة؛ حيث يتم التعامل في الوقت الحاضر مع ندرة المياه من خلال زيادة العرض بدلاً من الاهتمام بإدارة الطلب والتجميع القطاعي وتقنيات التسعير واتخاذ الترتيبات الإدارية المؤسسية الملائمة. يُذكَر أن رسوم المياه منخفضة جداً، ولا تعادل سوى 10 في المائة فقط من التكلفة، من دون تقديم حوافز للمستهلكين من أجل الاقتصاد في استهلاك الماء.
ولذلك من الضروري صياغة (سياسة مائية) خليجية واحدة، فعلى الرغم من أن المشكلة عامة بين دول الخليج وأسبابها مشتركة، فإن التعامل الخليجي معها جاء فردياً وليس جماعياً، وتتفاوت طريقة وأسلوب حل المشكلة من دولة إلى أخرى وفقاً لاعتبارات عديدة أهمها مدى تأثرها بالعجز المائي، ومدى مساهمة الموارد المتاحة لها في تغطية هذا العجز أو التقليل منه. وإن تشابهت الحلول فهو لتشابه المشكلة وليس لتنسيق أو عمل مشترك.
ونظراً لعدم وجود سياسة مائية واحدة، فإن ذلك انعكس سلباً على الموقف الموحد والجماعي من بعض المشروعات المائية التي اقترحت لتلبية الحاجات الخليجية والعربية من المياه، مثل خط (أنابيب السلام) الذي يفترض أن تنقل المياه بموجبه من تركيا إلى دول شبه الجزيرة العربية وإسرائيل، كما كانت هناك اقتراحات بنقل المياه من العراق إلى الكويت ثم تباعاً إلى بقية دول الخليج، وكذلك نقل مياه نهر النيل إلى غرب السعودية خصوصاً في فترات الفيضان وارتفاع منسوب المياه في النهر؛ ومثل هذه المشاريع بإمكانها سد الفجوة المائية الخليجية بسهولة، بيد أن هذا لا يعني إغفال التحفظات والمحاذير السياسية المحيطة بها.
وعموماً، يمكن القول إن الوضع المائي الخليجي لا يصب بحالته الراهنة في الرصيد الإيجابي للأمن الخليجي، وهو ما ينذر بمزيد من الخطورة في هذا الجانب الحيوي على المدى البعيد. وإذا كانت بعض مناطق العالم مرشحة لنشوب صراعات فيها بسبب المياه، وتحتل منطقة الشرق الأوسط مكانةً متقدمةً بين تلك المناطق، فإن الصراعات المحتملة في المنطقة ستكون بين أطراف عربية وأخرى غير عربية تتحكم بمصادر المياه؛ لكن الوضع الأخطر في منطقة الخليج هو أن التنازع حول المياه لن يكون مع طرف غير عربي يتحكم بالمياه المتاحة لدول المجلس، بل سيكون تنازعاً بينها وبين الطبيعة وهو بالتأكيد أشد تعقيداً وأكثر تهديداً.
ونتيجة لذلك، يجب على دول مجلس التعاون أن توحّد جهودها وسياساتها وإجراءاتها باتجاه عمل مشترك بهدف التصدي لمشكلة المياه؛ فهي ليست مشكلة بيئية فحسب، بل هي مشكلة متعددة الأوجه سواء سياسياً أو اقتصادياً أو بيئياً، بل يمكن القول إنها صراع من أجل البقاء.

Articles

أسواق الأسهم الخليجية والحاجة إلى إجراءات عاجــــــــــــــلة

لقد أظهرت التطورات الأخيرة في أسواق الأسهم الخليجية بعد الانهيارين الكبيرين اللذين أصابا سوق الأسهم السعودية في الرابع عشر من مارس والحادي عشر من إبريل وخسارة مؤشر تداولات الأسهم السعودي نحو 21.21 في المائة أو 2704.56 نقطة ليغلق يوم الخميس الحادي عشر من مايو 2006 عند مستوى 10046.83 نقطة، وما ترتب على ذلك من تبعات في الأسواق الخليجية الأخرى، أظهر ذلك كله مجموعة من الحقائق التي لا بد من التوقف عندها ورصدها وتحليلها والعمل على وضع الإجراءات العملية الكفيلة بمنع تكرار ما حدث.
أولى هذه الحقائق هي ترابط أسواق الأسهم الخليجية وشدة تأثر بعضها ببعض. فإذا كان الاقتصاد العالمي يُصاب بالزكام عندما يعطس الاقتصاد الأمريكي، كما قال رئيس هيئة سوق المال في نيويورك، فإن الأمر ينسحب على دور سوق الأسهم السعودية في المنطقة. فعلى الرغم من أن أسواق دبي وأبوظبي وقطر والكويت بدأت تشهد عمليات تصحيحية قبل المملكة العربية السعودية، فإن الوضع انعكس إلى سيناريو إذا ما اتجهت فيه السوق السعودية إلى الانخفاض، تبعتها في الانخفاض أسواق المنطقة الأخرى.
هناك إجراءات محددة يمكن اتخاذها للحيلولة دون تكرار مثل هذه الكارثة الاقتصادية والاجتماعية. ومن الضروري إجراء تغيير كامل في مستويات شفافية الشركات. كما يجب إيجاد إطار قانوني واضح يتصدى لأولئك الذين يخالفون أنظمة السوق، ويحول دون حدوث سيناريوهات مماثلة في المستقبل. وينبغي ألاّ يقتصر الأمر على فرض غرامات على المخالفين، بل يتعدى الأمر ذلك إلى ذكر أسمائهم وإشهارهم في الصحف. وعلى وسائل الإعلام، وخصوصاً قطاع البث الإذاعي والتلفزيوني، أن تلعب دوراً مسؤولاً، حيث يجب أن يقتصر في دعوته إلى إجراء المقابلات واللقاءات التلفزيونية على الخبراء الماليين الذين يفهمون الأسواق المالية.
ونلخص في ما يلي إجراءات يمكن اتخاذها لحماية حقوق المستثمرين وتعزيز ثقتهم بالأسواق الخليجية:
دور هيئات أسواق الأسهم الخليجية
– يظهر أنه لا يكفي فرض غرامات على المداولات غير القانونية. ومن المفروض أن تتخذ هيئات أسواق المال الخليجية المزيد من الإجراءات الصارمة، وتعمل على تحديد المذنبين أو الجناة وزجّهم في السجون لردع المخالفين مستقبلاً.
– يبقى بناء الكوادر المدربة والمؤهلة أشد الحاجات إلحاحاً، كما ينبغي أن تقوم هذه الهيئات باستقطاب موظفين يعرفون خفايا الأسواق المالية وتعقيدات التداول. ويمكن أن يعني ذلك استقدام خبراء أجانب كمستشارين لأسواق المال للاستفادة من خبرتهم.
– على هيئات الأسواق أيضاً أن تقوم بتحسين برامجها للوفاء بمتطلبات الأسواق اليومية. وكثيراً ما تتوقف خدمة التداول أثناء ساعات الافتتاح.
– يجب إيجاد أسواق ذات مستويين، أحدهما يعد قائمة بالأسهم (أ)، بينما يكون لدى المستوى الآخر الأسهم (ب)، إلى جانب الشركات التي أغلقت عروض الاكتتاب العام.
– ينبغي أن تعتمد أسواق المال على صمامات أمان تحميها من الانهيارات المفاجئة، بحيث يكون للأسهم منخفضة القيمة سقف أصغر للتحرك صعوداً أو هبوطاً من الأسهم عالية القيمة.
– توجد حاجة ماسّة إلى تطوير الخيارات الاستثمارية والعقود الآجلة.
– يجب أن تسمح أسواق المال الخليجية بالبيع قصير الأجل في هذه السوق، لأنه يساهم في انتعاش الأسعار.
– يجب العمل على اتخاذ جميع الإجراءات التي من شأنها أن تؤمِّن استمرارية تدفق السيولة على أسواق المال.
دور البنوك
– لا بد أيضاً من مراقبة البنوك، وفرض غرامات عليها إذا لم تقم بتحسين أنظمة التداول فيها. وكثيراً ما يشكو الناس من أنهم لا يستطيعون تنفيذ أمر في الوقت المحدد، ويرجع ذلك إلى وجود قليل من الاستثمار في أنظمة البرامج المستخدمة التي يمكنها تنفيذ عدد كبير من الأوامر.
– ليس من مصلحة القطاع المصرفي أن يسيء استخدام ثقة المستثمرين بشكل يعرّضهم لخسائر فادحة وانعدام الثقة؛ بل يجب تنظيم البنوك جميعاً من حيث حدود الإقراض، وينبغي مراقبته وتوجيهه حيادياً من قبل مؤسسات النقد والبنوك المركزية في كل دول المجلس.
– ينبغي أن تلتزم البنوك بالشفافية في ما يتعلق بالحسابات التجارية، وأن تعلن عما إذا كان لأعضاء مجلس الإدارة أو المديرين أي مصالح في أسواق المال.
دور الحكومات
– على الرغم من أنه من المستحسن أن تتدخل الحكومات عند وقوع الأزمات، فإنه ليس إجراءً مناسباً على المدى البعيد. وبإمكان الحكومات دراسة إبطاء الإجراءات الداعمة للأسواق المالية، سواء بشكل مباشر عن طريق المؤسسات العامة للتأمينات الاجتماعية وصناديق الاستثمار، وبصورة غير مباشرة عن طريق شراء الأسهم من خلال البنوك؛ ويجب أن تتوقف البنوك عن تلقي التعليمات بشراء أسهم معينة لدعم السوق.
– ينبغي ألاّ تتدخل المؤسسات المالية ببيانات تحاول من خلالها إعادة الثقة بالأسواق، في الوقت الذي تهوي فيه السوق إلى الحضيض، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى تفاقم الأزمة وانعكاساتها السلبية على المستثمرين.
شفافية الشركات
– إذا كانت الحكومات تدعو إلى مزيد من الشفافية، فيجب أن يلتزم الجميع بتلك الدعوة؛ فعلى البنوك مثلاً أن تعلن نتائج أبحاثها، ويجب أن تكون أسواق المال الخليجية أيضاً ملتزمة بالشفافية، وتقدم آخر المعلومات والبيانات.
– يجب تأنيب الشركات إذا كانت موازناتها تزخر بالأرباح غير المحققة كسيولة نقدية من التداول بسوق الأسهم، ويجب أيضاً أن يتم حذف هذه الشركات من السوق.
– يجب أن تقدم الشركات معلومات مفصلة على أساس تاريخ أنشطة أعضاء مجلس الإدارة فيها، مع تقديم تفاصيل حساباتهم المتعلقة بالتداول في سوق الأسهم، كما هو الحال بالنسبة إلى الشركات العالمية.
إن شباب دول المجلس بحاجة أيضاً إلى وجهة أكبر من مجرد أسواق المال والتعلق بمخاطر قصيرة الأجل باهظة التكلفة. كما ينبغي التركيز أكثر على التعليم والتدريب المهني للشباب لتدريبهم على المشاركة والمنافسة على الصعيد العالمي، خصوصاً أن معظم دول المجلس دخلت أو هي في طريقها إلى دخول منظمة التجارة العالمية.
وأخيراً لا بد من الاعتراف بأن التحديات أكبر من أن تـُـتـرَك على كاهل الحكومات الخليجية، وأنه لا بد للقطاع الخاص في دول المجلس من أن يضطلع بمسؤولياته لتحقيق المزيد من التكامل والتنسيق بين القطاعين العام والخاص لإيجاد بيئة جاذبة للاستثمارات الداخلية والخارجية والمباشرة منها وغير المباشرة، وتساهم في نمو هذه الأسواق وازدهارها على أسس راسخة من الثقة والإيمان بالمستقبل.

Articles

مشروع “الخليج الأخضر” والتحديات البيئية في المــــــــنطقة

تتعرض البيئة والموارد الطبيعية المحدودة إلى قدر هائل من الضغوط في الوقت الحاضر؛ فالأنشطة الإنسانية تلقي بتبعاتها. لذا أخذت الحكومات في مختلف أرجاء العالم، ومنها منطقة الخليج، تدرك سريعاً الحاجة إلى مدى كبح جماح هذا التيار القوي، وباشرت في سياسات إصلاحية، واتباع نهج يعمل من أجل التنمية المستدامة.
وبالرغم من منطقة الخليج تعد إحدى أكثر مناطق العالم تنوعاً من الناحية الطبيعية وازدهاراً من الناحية الاقتصادية، إلى جانب أنها تحظى بمكانة جيدة في مقاييس اجتماعية عدة، كما أنها الأغنى عالمياً باحتياطياتها من النفط والغاز، إلا أنها في الوقت نفسه الأكثر فقراً في ما يتعلق بموارد المياه المتجددة والأراضي الصالحة للزراعة، ولا تزال تعتمد بشكل كثيف على الموارد الطبيعية كاستراتيجية للتنمية، ويجري سحب المياه والنفط وصولاً إلى مستويات الاستنـزاف. ولذلك تواجه دول الخليج استحقاقات بيئية ملحّة منها ندرة المياه وسوء حالة الأراضي والتنوع البيولوجي والتدهور البيئي والساحلي والتلوث الجوي.
إن هذه الصورة المثيرة للقلق على المستقبل يؤكدها عدد من الدراسات الدولية، ومنها تقرير توقعات البيئة العالمية (Global Environment Outlook) الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة الذي يشير إلى أن المنطقة التي تشمل العراق والأردن ولبنان وسوريا وفلسطين أيضاً تتجه نحو وضع يُتوقَّع أن يكون فيه 90 في المائة من السكان يعيشون في بقاع تعاني من (ضغوط مائية شديدة)، وذلك خلال أقل من ثلاثين عاماً إذا لم يتم اتخاذ إجراءات سريعة لتغيير هذا المسار.
إن وتيرة الوعي البيئي في منطقة الخليج بطيئة، لكنها رغم ذلك تنمو، وهو ما تؤكده الإجراءات التي وضعتها حكومات دول مجلس التعاون بهدف حماية الموارد الطبيعية للمنطقة والحفاظ عليها، مثل إنشاء مؤسسات رفيعة المستوى للإشراف والمتابعة والقيام بمبادرات عدة لإدارة البيئة ومواجهة التحديات المتعلقة بها. ولم تقتصر مبادرات دول مجلس التعاون على منطقة الخليج فقط، بل امتدت إلى المستويين الإقليمي والدولي، حيث تشارك دول المجلس بفاعلية في مناقشات المؤتمرات الدولية التي تتناول موضوعات حماية الموارد الطبيعية والحفاظ عليها، وصادقت على عدة اتفاقيات بيئية متعددة الأطراف.
وبالرغم من كل الجهود الحكومية، فنحن كمركز الخليج للأبحاث نجد أن تعزيز الوعي البيئي لا يمكن أن يكون من مسؤولية الحكومات وحدها؛ لذا ارتأينا ألا نكتفي بالتركيز على القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، بل علينا تشجيع وتعزيز الأبحاث البيئية والوعي البيئي أيضاً.
إن حكومات منطقة الخليج تضع بلا شك القضايا البيئية على رأس أولوياتها، لكن من واجبنا كمؤسسة بحثية أن نسدَّ الفجوة في البيانات، وهي المشكلة القائمة في هذه المنطقة، وأن نتأكد من أن السياسات الإقليمية تزداد تطوراً، وتضع بصمتها في الساحة الدولية كذلك.
ولذلك، فقد وسّع مركز الخليج للأبحاث في عام 2005 أفق أنشطته، بحيث تشمل الأبحاث البيئية والتوعية البيئية في إطار الجهود العالمية من أجل تسهيل الوصول إلى حلول للمشكلات التي تواجهها هذه المنطقة والعالم أيضاً، وذلك بسبب تدهور وتناقص الموارد الطبيعية الحيوية.
لقد جاء هذا التوسع بهدف الوصول إلى تحديد وتحليل وفهم التهديدات البيئية التي تواجهها المنطقة من أجل إيجاد الحلول والأجوبة عن هذه القضايا الحساسة، ونؤسس معايير من شأنها أن تصحح أخطاء الماضي، وتفسح الطريق أمام الوصول إلى منطقة صديقة للبيئة وعالم أكثر خضرة.
لذلك كانت دراسة (الخليج الأخضر) التي أطلقها المركز في منتصف عام 2005 بوصفها بداية متواضعة في هذا الاتجاه، وتعد جزءاً من الرؤية التي نتطلع من خلالها نحو هذه المنطقة، وهي وجود (خليج أخضر). وهي فكرة نأمل بأن نحوّلها من مجرد جهد بيئي إقليمي إلى حركة دولية تهدف إلى تشجيع وغرس الوعي البيئي في قلوب وتفكير الشباب والكبار.
ومن المؤمّل أن يطلق مركز الخليج للأبحاث المرحلة الثانية من مشروع (الخليج الأخضر) في شهر أبريل 2006، وسوف يطلق عليها اسم (الخليج الأخضر -2020)، وسيتم تنفيذ هذا المشروع خلال العامين المقبلين بواسطة فرق متخصصة بالموارد يترأسها خبراء إقليميون في شؤون البيئة. وسوف تباشر هذه الفرق المتخصصة، بعد تحليل ما توصلت إليه الدراسة الأولية، عمليات دراسة بحثية متعمقة بشأن التهديدات التي تواجهها البيئة في المنطقة في الوقت الحاضر، وتطرح حلولاً بعيدة المدى، وتُعِد وثيقة سياسة بيئية نأمل بأن يكون لها تأثيرها بالنسبة لصانعي السياسات والقرارات، وذلك بهدف تأسيس تشريعات وتطبيق سياسات وإجراءات من شأنها المساعدة على تحقيق رؤيتنا للخليج الأخضر بحلول 2020.
إن مشروع (الخليج الأخضر) يرسي أسساً للتعاون الإقليمي في هذا المجال الحيوي جداً. ومن جانبه أنشأ مركز الخليج للأبحاث برنامج بحث بيئياً مع موقع متخصص على شبكة الإنترنت يحتوي على جميع المصادر الضرورية اللازمة لتحقيق فهم مقبول لهذه القضايا.
لقد حان الوقت للتحرك واتخاذ الخطوات، ويجب علينا القيام بذلك الآن؛ إذ إن مشروع (الخليج الأخضر) هو خطوتنا الأولى إلى الأمام في هذا الاتجاه، ونأمل بأن تكون هذه الخطوة بداية لثورة خضراء على الصعيدين الإقليمي والدولي تشارك فيها جميع القطاعات الرسمية والخاصة.

Articles

السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون والتـــــــــحديات الجديدة

ليس من قبيل المبالغة القول إن منطقة الخليج هي إحدى أكثر المناطق توتراً وسخونة في العالم. فالتطورات التي شهدتها المنطقة على الصعيدين الإقليمي والدولي بدءاً بالاحتلال الأمريكي للعراق وتدهور الأوضاع الأمنية فيه، مروراً بأزمة الملف النووي الإيراني والتطورات الأخيرة في الأراضي الفلسطينية، وانتهاءً بالحرب على الإرهاب والوجود الأمريكي المكثف في المنطقة، لم تسهم في رفع وتيرة هذا التوتر والقلق فحسب، بل إنها وضعت دول المجلس أيضاً أمام تحديات صعبة، يتطلب التعامل معها الكثير من التعاون والتنسيق بين هذه الدول.
إن استمرار تدهور الأوضاع الأمنية، وفشل محاولات تحقيق الاستقرار في العراق يتطلبان حشد جميع القدرات الممكنة لإيجاد حلول عملية كفيلة بمساعدة الشعب العراقي على الخروج من أزمته، والتغلب على محنته، بحيث لا يكون عبئاً أمنياً على دول المجلس، ولا يتحول في الوقت نفسه إلى مصدر تهديد محتمل لأمنها واستقرارها. صحيح أن بعض دول المجلس، بشكل عام، والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، حرصت على تأكيد اهتمامها بالأوضاع في العراق، وأعربت عن قلقها بسبب توسع النفوذ الإيراني هناك، كما انتقدت علانية سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في العراق التي قادت إلى هذا الوضع. وصحيح أيضاً أن كلاً من السعودية والكويت والبحرين شاركت في الاجتماعات الثمانية التي عُقِدت لدول الجوار، والتي كان آخرها (مؤتمر إسطنبول) في إبريل 2005، وقدمت مقترحات جيدة تساعد العراق والعراقيين على الخروج من هذه المحنة، إلاّ أن المعطيات الراهنة تشير إلى أن دول المجلس تستطيع اتخاذ المزيد من الخطوات العملية، التي من شأنها تهيئة ظروف أفضل لمعالجة المسألة العراقية، لاسيما أن أمن واستقرار العراق ستكون لهما انعكاساتهما الإيجابية، ليس على أمن دول المجلس فحسب، بل على أمن منطقة الخليج والمجتمع الدولي بصفة عامة.
أما على صعيد العلاقات مع إيران، فإن مسألة البرنامج النووي الإيراني تعني دول مجلس التعاون الخليجي، ولا بد أولاً من التأكيد على حقيقة أن دول المجلس لا تعارض حق إيران في استخدام التقنية النووية للأغراض السلمية، ولكن هناك هواجس مشروعة يطرحها البعض بشأن ضمانات أن إيران لن تسعى إلى تطوير أسلحة نووية تهدد أمن واستقرار المنطقة بأسرها وتدخلها في حالة من سباق تسلح غير محمود العواقب؛ كما أن هناك قلقاً مشروعاً من جراء احتمال قيام مواجهة مباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية بسبب الملف النووي، ففي هذه الحالة ستجد دول المجلس نفسها في خضم هذه المواجهة وتداعياتها، وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار التصريحات الإيرانية بضرب القوات الأمريكية أينما وُجِدت في منطقة الخليج، وربما تدمير المنشآت النفطية وإغلاق مضيق هرمز. ومن هنا يأتي حرص دول مجلس التعاون على التوصل إلى تسوية سلمية لأزمة الملف النووي الإيراني. أمام هذا الخطر المحدق عقد الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية عبد الرحمن بن حمد العطية مؤتمراً صحفياً عشية انعقاد القمة السنوية العادية السادسة والعشرين لمجلس التعاون، وأعلن تفاصيل ما وصفه بأنه مبادرته الشخصية الهادفة إلى إبرام اتفاق بين دول المجلس، بالإضافة إلى كل من العراق وإيران واليمن، وذلك لضمان إبقاء هذه المنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل كافة. وحرص الأمين العام على تأكيد أن المبادرة لا تتعارض مع الموقف الإيراني المعلن، والذي يقول إن الطموحات النووية الإيرانية مكرَّسة للأغراض السلمية. وأضاف قائلاً: (إننا نثق بإيران، لكننا لا نريد أن نرى مفاعل إيران النووي الذي هو أقرب إلى شواطئنا الخليجية من المسافة الفاصلة بين المفاعل وطهران يلحق الأذى بجيرانها).
وعلى الرغم من أهمية هذه المبادرة، فإن دول المجلس باعتبارها المعني الأول بهذا الملف، فإنه لابد من أن تكون طرفاً مشاركاً في المباحثات والجهود الجارية لإيجاد تسوية سلمية للملف النووي الإيراني، والعمل على تجنب أي مواجهات عسكرية جديدة، لا سيما أن المنطقة لاتزال تعاني من انعكاسات الحروب والمواجهات التي لم تتوقف منذ اندلاع حرب الخليج الأولى وحتى احتلال العراق.
وبخصوص القضية الفلسطينية، التي تعد قضية العرب الأولى، فإن دول المجلس وقفت – وتقف – إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة على جميع الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشريف. ولا بد من الإشارة إلى أن دعم دول المجلس لا يقتصر على الدعم المالي، كما يتصور البعض، ولكنه تطور إلى تقديم المبادرات الرامية إلى تحقيق تسوية سلمية استناداً إلى قراري مجلس الأمن (242) و(338) القائمين على مبدأ (الأرض مقابل السلام). فمبادرة المغفور له الملك فهد بن عبدالعزيز في مؤتمر فاس في عام 1982، ومبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز – عندما كان ولياً للعهد- والتي أصبحت مبادرة عربية بعد أن تم تبنيها بالإجماع خلال القمة العربية التي عُقِدت في بيروت في عام 2002، دليل على مدى جدّية اهتمام المملكة العربية السعودية بشكل خاص ودول المجلس عموماً بالقضية الفلسطينية، وحرصها على تحقيق السلام انطلاقاً من قناعتها بأن التوصل إلى تسوية عادلة لهذا الصراع سيكون من مصلحة الأطراف المعنية، ويسهم في تعزيز أمن العالم واستقراره.
ومن الملاحظ أن نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وحصولها على أغلبية المقاعد في البرلمان، وتكليفها رسمياً بتشكيل الحكومة المقبلة، كشف عن المعايير المزدوجة التي تتعامل بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع قضية الإصلاحات السياسية ونشر الديمقراطية في الوطن العربي، والمتمثلة في رفض الجانبين لنتائج الممارسات الديمقراطية مادامت لا تتوافق مع مصالح واشنطن وبروكسل؛ فما إن أُعلنِت النتائج، حتى أعلنت أمريكا والاتحاد الأوروبي عن عدم إجراء أي اتصالات مع قيادة (حماس) وأنهما سيوقفان جميع أشكال الدعم للسلطة الفلسطينية. لذا فإن دول مجلس التعاون الخليجي تواجه مهمة شاقة تتمثل في شرح هذا التناقض الذي تعاني منه دول لا تزال تصر على اعتبار نفسها منبراً للحرية ومنارة للديمقراطية وراعية لحقوق الإنسان، خاصة أن وقف الدعم يعني ببساطة معاقبة شعب بأسره على خياره الديمقراطي.
إذا كنا نريد تسمية الأشياء بأسمائها، فإنه لا بد من تأكيد أن دول المجلس تواجه الآن تحديات جساماً تفرضها حتمية تراجع الدور الأمريكي في المنطقة في حال فشل مغامرة واشنطن في العراق، خاصة أن من شأن ذلك أن يشجع، ليس قوى المعارضة والتطرف في دول العالم الثالث على مواجهة أمريكا فحسب، بل إنه سيفتح شهية الاقتصادات الناشئة في العالم، مثل الصين والهند وباكستان وماليزيا وغيرها، لتعزيز أمن الطاقة لديها في ظل تزايد احتياجاتها من النفط والغاز، والبحث كذلك عن أسواق جديدة لسلعها ومنتجاتها وفرص جديدة للاستثمارات المباشرة وغير المباشرة؛ فهل يمكن أن نستبعد تنافساً حاداً بين هذه الدول والولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما أن سياسة التوجه شرقاً التي عززتها جولة العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وإن كانت لا تعني التخلي عن الحلفاء القدامى، لكنها تؤكد في الوقت نفسه أن هذه العلاقة مع واشنطن لم تعد حصرية؟
نحن على يقين بأن دول مجلس التعاون تدرك تماماً حجم التحديات التي تواجهها على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتدرك أيضاً أن حدّة هذه التحديات ليست مرشحة للتراجع في المستقبل المنظور، ولكن إدارة دول المجلس لكل هذه الأزمات تؤكد من ناحية أخرى أنها لاتزال قادرة على مواجهة هذه التحديات، وتحويلها إلى فرص تحقق المزيد من الأمن والاستقرار لشعوب المنطقة بأسرها، وهو ما يحتم على هذه الدول مواصلة وتعزيز جهود التعاون والتنسيق فيما بينها، ليس على مستوى قضايا السياسة الخارجية فقط، بل في جميع المجالات.

Articles

الأبعاد الاقتصادية لجولة الملك عبد الله الآسيـــــوية

قام خادم الحرمين الشريفين عبد الله بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية بجولة آسيوية زار خلالها الصين والهند وباكستان وماليزيا، وذلك ابتداءً من الحادي والعشرين من شهر يناير وحتى مطلع فبراير 2006. إن هذا التوجه شرقاً إنما ينم عن رؤية واضحة وبصيرة ثاقبة وقراءة سليمة للتطورات والمتغيرات، التي تشهدها الساحة الدولية بشكل عام ومنطقة جنوب شرق آسيا على وجه الخصوص.
فعلاقات الصين مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى تتخذ مساراً متسارعاً باطراد على طريق التعاون في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية، ويعود ذلك في جانب مهم منه إلى حاجاتها من الطاقة اللازمة لتزويد عجلة اقتصادها المزدهر. فالصين اليوم تُعتبـَـر ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم، وتبلغ حصتها اثني عشر في المائة من إجمالي الاستهلاك العالمي من النفط، وتستورد ثلث حاجتها من النفط من الخارج. وتتوقع الوكالة الدولية للطاقة أن تعادل حصة الصين أكثر من عشرين في المائة من حجم النمو الذي سوف يشهده الطلب العالمي على الطاقة، وذلك خلال الأعوام الخمسة والعشرين المقبلة. وتستورد الصين حالياً اثنين وثلاثين في المائة من نفطها، وهي كمية يُرجـَّـح أن تتضاعف خلال الأعوام الخمسة المقبلة. ويُرجـَّـح أن ترتفع وارداتها من الغاز في عام 2010 إلى ما بين 20 ـ 25 مليون متر مكعب، بينما كانت قادرة على سد احتياجاتها من الغاز من الموارد المحلية في عام 2000.
غير أن الشراكة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي تتضمن مصلحة مشتركة لأسباب متعددة، منها أن الجانبين متفقان على تعزيز نهج الانفتاح، وحريصان على الاستفادة من المناخ التجاري والاستثماري العالمي.
ومن الأسباب أيضاً التي تدعو إلى تعزيز الشراكة بين الصين ودول المجلس دخول الصين بشكل واسع إلى قطاع الخدمات النفطية في المنطقة، وذلك من خلال توقيع ثلاثة آلاف عقد مع أقطار مجلس التعاون الخليجي، قيمتها 2.7 مليار دولار، وتتصل بخدمات العمالة، وذلك منذ عام 2001. وتضمنت الروابط الاقتصادية الصينية المتنامية مع دول المجلس في عام 2004 اتفاقاً حول التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والتقني، والتفاوض حول إقامة منطقة تجارة حرة بين الصين وأقطار المجلس. يُضاف إلى ذلك أخيراً أن الصين تبحث عن مجالات الحصول على مواد خام غير ذات صلة بالطاقة، من أجل تزويد صناعاتها، وهو ما يوسع نطاق محفظتها الاستثمارية في المنطقة.
أما الهند فتعد الآن الدولة السادسة الأكثر استهلاكاً للنفط في العالم، وتستورد سبعين في المائة من احتياجاتها النفطية، كما أنه من المتوقع أن تحل الهند بحلول عام 2010 مكان كوريا الجنوبية لتصبح الدولة الرابعة الأكثر استهلاكاً للنفط بعد الولايات المتحدة والصين واليابان، مع ملاحظة أن معظم واردات النفط الهندية تأتي من منطقة الخليج. وقد تحركت الهند في هذا الاتجاه بعد الارتفاع المفاجئ في أسعار النفط، وارتفاع معدل التضخم لديها في نهاية عام 2004 إلى أعلى مستوياته خلال ثلاث سنوات ونصف السنة. أما في عام (2004 ـ 2005)، فقد زادت قيمة واردات الهند من النفط بنحو خمسين في المائة لتصل إلى تسعة وعشرين مليار دولار.
ومن المؤكد أن الحكومة الهندية عازمة على ضمان أمن طاقتها وتوفير احتياجاتها، ولا سيما أنها قررت أن توفر احتياطياً نفطياً استراتيجياً يصل إلى نحو خمسة ملايين طن بحلول عام 2008، وذلك بهدف توفير احتياجات البلاد لمدة خمسة عشر يوماً. ولتحقيق هذا الهدف، تبحث الهند عن احتياطيات جديدة، وتعزيز الإمدادات من المصادر التقليدية، بالإضافة إلى الحصول على مصادر جديدة من امتيازات للتنقيب في العديد من دول العالم. فالمملكة العربية السعودية تزود الهند بنحو ستة وعشرين في المائة من إجمالي احتياجاتها التي تُقدَّر بزهاء تسعين مليون طن، أي بمعدل 450 ألف برميل في اليوم، مما يجعلها رابع أكبر مستورد بين دول آسيا للنفط السعودي. ويتوقع وزير النفط الهندي أن تتضاعف هذه الكمية في المستقبل القريب، كما أن السياسة النفطية الجديدة تقوم على التعاون بين الدول المصدّرة والمستهلكة للنفط. وبدلاًً من القيام بتكرير النفط الخام في الهند، فإنه من الممكن أن تستورد النفط المكرر، لأن أي اتفاقية تقوم على الشراء أو البيع تؤدي في الأغلب إلى عدم استقرار في العلاقة. وبهدف تفعيل هذا التوجه الجديد، فإن الهند تشجع إقامة استثمارات سعودية في مجال تكرير النفط وتسويقه، بالإضافة إلى دراسة إمكانية الاستثمار في تطوير حقول الغاز في المملكة، فهناك الآن شركتان هنديتان تجريان مفاوضات مع شركة (أرامكو) حول إمكانية الحصول على استثمارات سعودية، وكذلك إمكانية ضخ المزيد من الاستثمارات الهندية في محطة تكرير (ينبع).
لقد شهد الاقتصاد الهندي نمواً بلغ 8.2 في المائة خلال السنة المالية الماضية، ومن المتوقع أن يتوسع بنحو سبعة في المائة خلال السنة المالية الحالية. وفي إطار استعداداتها لتحقيق هذه التوقعات، أعلنت الهند عن خطط لشراء مليون طن من النفط الخام سنوياً من قطر، وتشجيع المزيد من واردات الغاز المسال. وتحتاج الهند إلى الغاز لتلبية معدلات الاستهلاك التي ترتفع باطراد في المجالات الصناعية والنقل والمنازل، والتي تُقدَّر بنحو مائة وسبعين مليون متر مكعب في اليوم، ومن المتوقع أن ترتفع إلى أربعمائة مليون متر مكعب خلال السنوات العشرين المقبلة، علماً بأن إجمالي الإنتاج المحلي لا يتجاوز خمسة وثمانين مليون متر مكعب في اليوم، وتستورد الهند الكمية المتبقية، فقد ارتفع عدد السيارات المبيعة في الهند بنحو ستة عشر في المائة ليصل إلى سبعة ملايين وتسعمائة ألف سيارة خلال العام الماضي، هذا بالإضافة إلى خمسين مليون سيارة تجوب شوارع الهند. لذلك، فمن المتوقع أن يزداد الطلب على الوقود مع ازدياد المشاريع المحلية والإقبال على الرحلات الترفيهية، ولا سيما أن سوق الطيران الهندي يشهد زيادة سنوية بنحو عشرين في المائة. ومن أجل توفير هذا الطلب المتزايد على الطاقة، تجرى الآن مفاوضات بين الهند وباكستان لبناء خط أنابيب بطول 2775 كيلومتراً، وبتكلفة إجمالية تصل إلى أربعة مليارات دولار لضخ الغاز الإيراني إلى الهند عبر باكستان، وهي الخطة التي اقترحتها إيران في عام 1996، ولكن تسبب التوتر بين الهند وباكستان في تأخير تنفيذها. أما الآن، ومع تحسن العلاقات بين البلدين، فإن من الممكن أن يبدأ ضخ الغاز الإيراني بحلول عام 2012.
وفي السياق نفسه، تأتي المحادثات المتصلة بالتعاون الاقتصادي وتعزيز الإمكانات الاستثمارية والتجارية بين باكستان والمملكة العربية السعودية، والتي سوف تبرز بوضوح خلال هذه الزيارة. والجدير بالذكر أن باكستان تشهد الآن نمواً اقتصادياً ملحوظاً، إذ شهد عام 2005 تحقيق أسرع نسبة نمو في إجمالي الناتج المحلي، حيث بلغت 8.4 في المائة. وبلغ حجم التجارة البينية بين الجانبين في العام نفسه 2832.8 مليون دولار أمريكي، وذلك مقابل 2127.2 مليون دولار في عام 2004، كما شهدت التحويلات المالية من الباكستانيين العاملين في المملكة ارتفاعاً خلال العام الماضي أيضاً، فبلغت 627.19 مليون دولار مقابل 565.29 مليون دولار في عام 2004.
إن توجّه المملكة العربية السعودية شرقاً والذي تجسّده جولة الملك عبد الله في آسيا، لا يمكن أن يفهم على أنه يأتي على حساب علاقاتها مع الغرب، ولكن يجب النظر إليه من منطلق أنه خطوة باتجاه تنويع الأسواق الاستثمارية والعلاقات الاقتصادية للمملكة لتشمل أكبر عدد ممكن من مناطق العالم ودوله. وفي ضوء التطورات القائمة على الساحة الدولية، فإن المملكة تدرك أن العلاقات السياسية لم تعد هي الحاكمة للعلاقات الاقتصادية، وأن خدمة الوطن والمواطن تتطلب دائماً التكيف مع المستجدات لضمان استمرار الأمن والاستقرار والازدهار.

Articles

إشراك مجلس التعاون في المفاوضات الأوروبية ـ الإيرانيـــــــة

بعد وصول الجولة الثالثة من المفاوضات بين إيران والاتحاد الأوروبي بخصوص برنامج طهران النووي إلى طريق مسدود، وبعد إعلان إيران عن إنهاء المفاوضات مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وأنها ستستأنف العمل في بناء مفاعل نووي في أرضها لمعالجة اليورانيوم الخام وتحويله إلى غاز يمكن استخدامه في الأغراض المدنية أو العسكرية، أصبحت تسوية الملف النووي الإيراني لا تحتمل التأجيل.
إن إعلان الولايات المتحدة الأمريكية والترويكا الأوروبية إرجاء طرح موضوع إيران على مجلس الأمن الدولي يجعل من مشاركة دول مجلس التعاون في المفاوضات الأوروبية ـ الإيرانية أمراً حتمياً إذا كانت الأطراف تريد فعلاً الخروج من المأزق القائم. فدول المجلس معنية بالانعكاسات السلبية للبرنامج النووي الإيراني على الصعد الأمنية والسياسية والبيئية بغض النظر عن طبيعة الموقف الذي سينتهجه المجتمع الدولي تجاه طهران. فإذا ما تراجعت الضغوط الدولية على إيران، فإنها ستمضي قدماً في برنامجها النووي، الأمر الذي يهدد أمن واستقرار وبيئة دول المجلس أكثر من غيرها، وخصوصاً أن بعض دول الخليج لا تبعد عن إيران أكثر من أربعين ميلاً بحرياً.
أما إذا قررت الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل توجيه ضربة وقائية ضد المنشآت النووية الإيرانية، فإن زمام الأمور قد يفلت من الجميع، وتتعرض دول المجلس ومُدنها وبناها التحتية للاعتداء كما توعد بذلك مسؤولون إيرانيون. بعد نجاح تجربة صاروخ شهاب ـ 3 في أغسطس من العام الماضي أعلن وزير الدفاع الإيراني آنذاك علي شمخاني (أن إيران قادرة الآن على توجيه ضربات وقائية إلى مرافق أمريكية وإسرائيلية في المنطقة لمنعها من توجيه ضربات على أهداف إيرانية).
ومما يفاقم من خطورة الوضع أن تل أبيب لا تستبعد توجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووي الإيراني. فقد أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز يوم التاسع من ديسمبر الجاري (أن على بلاده البحث عن حلول غير دبلوماسية لمواجهة التهديد الإيراني). بغض النظر عن الطرف الذي سيبادر بتوجيه الضربة الاستباقية أو الرد عليها، فإن الأمر المؤكد هو أن دول مجلس التعاون ستجد نفسها شاءت أم أبت في خط النار.
إن على الاتحاد الأوروبي أن يدرك قبل غيره أن أهمية منطقة الخليج ليس لأهلها وحسب، ولكن للعالم بأسره أيضاً لأن هذه المنطقة هي خزان الطاقة الرئيسي الذي يمثل عصب الاقتصاد ويضمن استمرار التطور الاقتصادي في العالم. إن أمن واستقرار المنطقة من الأهمية بمكان إلى حد لا يمكن معه أن تستأثر به جهة خارجية من دون مشاركة معلنة وفعّالة من دول المجلس نفسها. إن الفشل في التوصل إلى تسوية مقبولة لجميع الأطراف المعنية للملف النووي الإيراني لن تزيد الأمور إلاّ سوءاً وتدهوراً، فدول المجلس لن يكون أمامها من خيار سوى التمسك ببقاء القوات الأجنبية في منطقة الخليج. كما أنه ليس من المستبعد أن تدخل دول المنطقة في سباق نحو امتلاك أسلحة الدمار الشامل والاعتماد على ميزان الرعب بدلاً من إفشاء روح الأمل والتعاون.
وحرصاً منه على مواكبة الأحداث، أطلق مركز الخليج للأبحاث مبادرتين انطلاقاً من موقعه كمركز يهتم بشكل أساسي بمنطقة الخليج وقضاياها، ويُعنى بالأبعاد السياسية والاستراتيجية للشؤون الخليجية، ويهتم بتعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين. إحدى هاتين المبادرتين هي جعل الخليج منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، والأخرى تشجيع توطيد العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي. وتنبع المبادرة الأولى من الحاجة الملحّة إلى دراسة إمكانية اتخاذ خطوات وقائية مضادة لأي محاولات لإقحام منطقة الخليج في سباق على امتلاك أسلحة الدمار الشامل، بينما تنبع المبادرة الأخرى من إدراك عدم قدرة أقطار مجلس التعاون الخليجي على معالجة مثل هذه القضايا وحدها من ناحية، ومن تراجع مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى.

وبينما يتعين أن تكون منطقة الشرق الأوسط كلها خالية من أسلحة الدمار الشامل، فإن بإمكان منطقة الخليج أن تمثل نقطة البدء في وضع ترتيبات الأمن الإقليمي مستقبلاً، وسوف يسهم ذلك في وضع إطار لتصور أمني في المدى البعيد، وتكثيف الضغوط على أي دول أخرى تمتلك أسلحة دمار شامل كي تتخلى عن هذه الأسلحة.
صحيح أن أقطار مجلس التعاون الخليجي ترفض أي تهديد نووي من جانب جارتها، لكنها تعارض في الوقت ذاته توجيه أعمال عدوانية ضد إيران. فالعلاقات بين أقطار مجلس التعاون الخليجي وإيران متشابكة ومتشعبة. وفي الوقت الذي تبادر فيه دول عدة إلى صياغة رؤاها الخاصة، وتحاول حماية مصالحها في المنطقة، فإن على دول مجلس التعاون الخليجي أن تبادر إلى قبول المشاركة في الحوار الأوروبي ـ الإيراني، فهم الطرف المعني أكثر من غيرهم، وهم جزء من المجتمع الدولي الذي سيلتزم بتنفيذ قرارات مجلس الأمن حال صدورها ولن يقف عائقاً أمام استخدام بحره أو جوه، وعلى دول الاتحاد الأوروبي في الوقت ذاته أيضاً أن تشجع هذا التوجه الخليجي في ضوء المصالح المشتركة والقائمة بينها وبين دول المجلس.

Articles

اتفاقيات التجارة الحرة: الفرص والتحديات

لقد أدت الأحداث والمتغيرات المتسارعة التي يشهدها عالم اليوم إلى الانتقال من الاتفاقيات الثنائية التقليدية إلى اتفاقيات التجارة الحرة التي تكرس التكامل الاقتصادي العالمي، وخاصة بعد نشوء التكتلات الدولية والإقليمية، وذلك بهدف تحرير التجارة وإزالة جميع القيود أمام انتقال البضائع والخدمات ورؤوس الأموال. وعلى الرغم من أن دول الشمال تحاول جاهدة أن تسلط الضوء على إيجابيات اتفاقيات التجارة الحرة والفرص التي توفرها مثل زيادة حجم التبادل التجاري، ورفع معدلات النمو الاقتصادي، وضمان شفافية تداول المعلومات التجارية، وتحقيق سيادة القانون ومحاربة الفساد وحماية الملكية الفكرية، ودعم جهود الإصلاح والتكامل الاقتصادي وغير ذلك مما تتفتح عنه قريحة خبراء الاقتصاد، فإن هذا كله يجب ألاّ يلهينا عن النظر إلى التحديات والمخاطر التي قد تترتب على توقيع مثل هذه الاتفاقيات وخصوصاً بالنسبة للقطاع الخاص ورجال الأعمال. إن أهمية اتفاقيات التجارة الحرة تكمن في أنها تلبي المتطلبات التي تفرضها المتغيرات الإقليمية والعالمية الجديدة. فليس هناك من دولة مهما بلغت قوتها الاقتصادية أو سطوتها العسكرية أو هيمنتها التقنية يمكن أن تدّعي قدرتها على الاكتفاء الذاتي، وبالتالي فإنها لا بد أن تقيم علاقات، وتبرم اتفاقيات تتكامل من خلالها الاقتصادات الإقليمية والعالمية.
بحلول الحادي عشر من ديسمبر 2005، يكون قد مضى على توقيع وثائق انضمام المملكة العربية السعودية لمنظمة التجارة العالمية ثلاثون يوماً. وعند هذا التاريخ ستنال المملكة العضوية الكاملة في هذه المنظمة، لتبدأ انطلاقة اقتصادية جديدة. وبهذا الانضمام تكون دول مجلس التعاون الخليجي كلها قد دخلت في هذه الاتفاقية الدولية.
وبامتلاكها ربع الاحتياطيات العالمية المؤكدة من النفط، إلى جانب ما تتمتع من وزن إقليمي ودولي على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، فإن انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية يُعـَـد حدثاً بارزاً سيكون له ما بعده.
وأمام العراقيل التي لا تزال تحول دون إبرام اتفاقية لإقامة منطقة للتجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، فإن هناك إشارات مبشّرة ظهرت في الآونة الأخيرة تدل على ازدياد تصميم الجانبين على التوصل إلى الاتفاق على إقامة هذه المنطقة. ومن المؤكد أن إبرام الاتفاق النهائي بين دول المجلس والاتحاد الأوروبي سوف يفتح الباب لإقامة مشروعات مشتركة مختلفة يبدو أن موضوع الطاقة سيكون الحاضر الأبرز فيها.
ولا ننسى هنا كذلك الاتفاقيات التي أبرمتها بعض الدول الخليجية مع الولايات المتحدة بشكل منفرد، والتي كان بودنا أن تتم في إطار جماعي يشمل الدول الخليجية مجتمعة.
ومهما يكن، فإنه لا بد من الاعتراف بميزات هذه الاتفاقيات ودورها في رفع معدلات النمو الاقتصادي، وضمان شفافية تداول المعلومات التجارية، وتحقيق سيادة القانون، ومحاربة الفساد، وحماية الملكية الفكرية، ودعم جهود التكامل الاقتصادي، فهي ستفتح بلا شك آفاقاً جديدة وواعدة للتعاون الاقتصادي، وستدعم برنامج الإصلاحات الاقتصادية الطموحة التي تضطلع بها بعض دول المنطقة، وبالتالي فإنها ستعمل على تغيير وجه المنطقة وخارطتها الاقتصادية بشكل كامل.
لكن هذه التغييرات قد بدأت تحدث دون مشاركة من المعنيين مباشرة بالشأن الاقتصادي، ونعني بذلك رجال الأعمال والقطاع الخاص. وتبقى هذه النقطة إحدى السلبيات التي اعترت توقيع هذه الاتفاقيات، حيث إن دول المنطقة لم تقم بإشراك الفاعلين الاقتصاديين في المفاوضات، مما كان له أن يوفر ـ لو تم ـ فرصة لهذا القطاع للمساهمة في تحديد مسار المباحثات، وربما تهيئتها لنجاح أكبر.
ومع مساسها المباشر بمصالحه الحيوية، فإن نصوص وبنود وشروط وقيود هذه الاتفاقيات تكاد تكون مجهولة بالنسبة للقطاع الخاص الذي ربما يكون هو المعني الأول بها.

الآن، وقد تم توقيع هذه الاتفاقيات، فإن الجهات الرسمية تتحمل مسؤولية تعريف القطاع الخاص بجميع فئاته ومكوناته بحيثيات هذه الاتفاقيات. ويمثل تنظيم المحاضرات والندوات وإعداد ونشر الدراسات مجالاًً لإتاحة هذه النصوص وتسهيل الاطلاع عليها حتى يتمكن القطاع الخاص من التهيؤ والتحضير للاستفادة من الفرص والمغانم ومعرفة كيفية مواجهة التحديات والمخاطر، وذلك حتى لا يخسر هذا القطاع دوره في الأسواق المحلية والإقليمية والعالمية ويحتفظ بقدرته على المنافسة. إن ذلك سيمثل بالنسبة لهذا القطاع فرصة حقيقية لتعظيم المكاسب، والحد من التبعات السلبية المحتملة تأكيداً على حرص الجهات الرسمية على حماية مصالح ومكتسبات هذا القطاع، والعمل على ضمان استمرارية دوره الذي ينبغي أن يتعزز في المستقبل.

Articles

العلاقات الخليجية – الإيرانية: تحديات الحاضر وآفاق المــــستقبل

من المؤكد أن المشهد الراهن في منطقة الخليج هو في غاية السيولة والالتباس، حيث إن هناك عدة قضايا متفجرة في الوقت ذاته في مقدمتها المسألة العراقية والملف النووي لإيران، فضلاً عن الإرهاب التي يستهدف الدول والمجتمعات..إلخ. وهذا المشهد تشكله أطراف إقليمية ودولية عديدة، تتقاطع مصالحها وتتصادم سياساتها، مسببة حالة من الارتباك وعدم الاستقرار في منطقة ذات أهمية حيوية للاقتصاد العالمي بحكم ما تمثله دولها من وزن في السوق العالمي للنفط سواء على صعيد الإنتاج والتصدير أو الاحتياطي النفطي.
وفي هذا السياق يمكن القول: إن العلاقاتِ بين دولِ مجلسِ التعاون الخليجي وإيران هي علاقات مهمة بالنسبةِ للطرفين، لاعتباراتٍ جغرافيةٍ وحضاريةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ وأمنية. وقد ظلت هذه العلاقات تتراوح بين مدٍ وجزرٍ منذ سبعيناتِ القرنِ العشرين، كما أنها ظلت على الدوام تتأثر ـ بدرجاتٍ متفاوتةٍ وأشكالٍ مختلفة ـ ببعضِ التطوراتِ والمستجـِـداتِ الإقليميةِ والدولية، ناهيك بالطبع عن بعض التطوراتِ الداخليةِ التي حدثت على الجانبين، وبخاصة في ما يتعلقُ بإيران، والتي كانت لها تأثيراتهـا المباشرة في علاقاتِ طهران بدولِ المجلس.
من هنا، جاءت مبادرة مركزِ الخليج للأبحاث وجامعةِ درَم البريطانيةِ بتنظيمِ حلقةِ دراسية بعنوان (العلاقات بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي في ضوء انتخابات الرئاسة الإيرانية: الوضع الراهن وآفاق المستقبل)، وذلك خلال الفترة من 28- 29 سبتمبر 2005 . وقد دعوا نخبةً متميزةً من الباحثين والخبراءِ من دولِ المجلسِ وإيران للمشاركةِ فيها، وذلك بهدفِ مناقشةِ وتحليلِ واقعِ ومستقبلِ العلاقاتِ بين الجانبين استناداً إلى أسسٍ علميةٍ وواقعية، تقومُ على المصارحةِ والمكاشفة، وذلك بقصدِ تحديدِ العواملِ الحاكمةِ لمستقبلِ هذهِ العلاقات، مع تحليلِ أهمِ المعوقاتِ التي تؤثر أو يمكن أن تؤثـرَ سلباً فيها، مع طرح رؤى وتصوراتٍ لكيفيةِ معالجتِها، على نحوٍ يبدد أيَ هواجسَ قائمة أو محتملة، ويعزز من هذهِ العلاقاتِ في المستقبل، حتى تكونَ ركيزةً للأمنِ والاستقرارِ في منطقةٍ لم تعرفْ سوى الحروبِ والدمارِ منذ عقود.
واستندت الحلقة الدراسية في مناقشتها للموضوع إلى اعتبار أساسي مفاده أن العلاقاتِ بين دولِ مجلسِ التعاونِ الخليجي وإيران لها أبعادها المتعددة التاريخية والسياسية والاقتصادية والأمنية، مما يستوجب مقاربتها من منظور شامل يتناول مختلف قضايا هذه العلاقات والعوامل المؤثرة فيها، فضلاً عن النظر إليها في ضوءِ عددٍ من المستجـِـداتِ المهمة، وفي مقدمتِها انتخابات الرئاسةِ الإيرانية، والتي يرى كثيرون أنها بمثابةِ نقطةِ تحول وعلامةٍ فارقةٍ في السياسةِ الإيرانيةِ على الصعيدين الداخلي والخارجي.
كما أنه لا يمكن استشرافُ مستقبلِ العلاقاتِ بين دولِ المجلس وإيران بعيداً عن بعضِ التطوراتِ الإقليميةِ والدوليةِ الرئيسية، وبخاصةٍ في ما يتعلقُ بتعقيداتِ العلاقاتِ بين واشنطن وطهران على خلفيةِ الملفِ النووي الإيراني والمسألةِ العراقية وقضايا أخرى. وتعتبر دول المجلس معنية بهذه الأمور، فأية مواجهة بين واشنطن وطهران سوف تلقي بظلالها السلبية على المنطقة برمتها.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن مستقبل الأمن والاستقرار في الخليج يتوقف في جانب مهم منه على ما ستفسر عنه حالة المخاض العسير، التي يمر بها العراق في الوقت الراهن، والتي تتداخل في تحديد ملامحها ومساراتها عوامل داخلية وإقليمية ودولية كثيرة ومعقدة. ولكن في جميع الحالات يبقى الدور الإيراني من أهم العوامل التي يمكن أن تساعد على دفع الأوضاع في العراق نحو مزيد من التوتر والمواجهة أو نحو السلم والاستقرار بما يحفظ للعراق وحدته وسلامة أراضيه.
كما أن ملفاتٍ مثلَ النفطِ وما تشهده أسواقـه من تحولات ومتطلباتِ تعزيزِ الاستقرارِ السياسي والأمني في المنطقةِ وغيرِها، تشكل هي الأخرى مجالاتٍ مهمة للعلاقاتِ بين طهران ودولِ المجلس. ومغزى ذلك أن هناك آفاقاً واسعة للتعاون بين الجانبين على قاعدة المصالح المتبادلة، والالتزام بأسس حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وقبل كل ذلك تصفية بعض المشكلات العالقة وفي مقدمتها مشكلة الجزر الثلاث.
وعلى الرغم من بعض التطورات الإيجابية التي شهدتها العلاقات بين دول المجلس وإيران خلال السنوات الأخيرة، إلا أن من أبرز النتائج إلى خلصت إليها الحلقة الدراسية المشار إليها هو وجود حاجة ضرورية لتعزيز قنوات التواصل والحوار بين الجانبين على الصعيدين الرسمي وغير الرسمي باعتبار أن ذلك هو المدخل الرئيسي لتبديد سوء الفهم، وإزالة أي هواجس، وتعزيز فرص بناء الثقة، والتحرك بفاعلية من أجل بناء أسس للأمن والاستقرار في الخليج.
إن اهتمامَ مركزِ الخليج للأبحاث بإيران وما يجري فيها وحولها من تطوراتٍ ليس من قبيلِ الاهتمام الظرفي أو الطارئ، بل هو اهتمامٌ أصيلٌ ينبعُ من قناعةِ المركزِ بأهميةِ إيران ودورِها كطرفٍ رئيسيٍ في منطقةِ الخليج، ومن ثـَـمَّ لا يمكنُ الحديثُ عن أمنٍ واستقرارٍ في المنطقةِ بمعزلٍ عن إيران، ولكن تحقيق هذا الهدف يتطلب مبادرات جادة لحل المشكلات، وتهيئة البيئة الإقليمية بما يعزز من فرص تحقيق الأمن والاستقرار، وبخاصة في ما يتعلق بالمساعدة على خروج العراق من مأزقه الراهن، فلا استقرار في الخليج من دون عراق مستقر وآمن، كما أن تسوية مشكلة الملف النووي الإيراني بطريقة سلمية سيكون لها مردودها الإيجابي على المنطقة برمتها.

Facebook
Twitter
YouTube
LinkedIn
Scroll to Top