خلاف لا يمكن أن يســـــتمر
بصفتي أحد مواطني مجلس التعاون الخليجي أجد نفسي مغموراً بمشاعر الإحباط العميق لما آل إليه الخلاف الذي نشأ عن اعتراض المملكة العربية السعودية على اتفاق التجارة الحرة الذي عقدته المنامة مع واشنطن، خصوصاً أن هذا الخلاف، يهدد بنسف مستقبل عملية التكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون الخليجي. ولعل استئثار ملف الخلاف السعودي – البحريني بالجزء الأكبر من جلسات المناقشات خلال قمة المنامة، يعكس بشكل جلي وملموس مدى حدة الأزمة وجديتها، الأمر الذي يثير تساؤلات عدة حول مستقبل مجلس التعاون الخليجي ذاته.
لا بد لي أن أشير في هذا المقام إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي، تبنت منذ فترة ليست بالقصيرة فكرة بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في دلالاتها، وتتمحور هذه الفكرة بشكل أساسي حول اقتناع دول مجلس التعاون الخليجي بأن عملية تعزيز أواصر التعاون فيما بينها، وبمساعدة مجموعة من الشركاء الرئيسيين، توفر فرصة لتحقيق أهدافها الجماعية على المديين القصير والبعيد.
وليس مستغرباً أن تتطلع شعوب دول مجلس التعاون الخليجي بعد انقضاء ما يزيد على ثلاثة وعشرين عاماً من عمر مجلس التعاون ونجاحه في تحقيق مجموعة من الأهداف الاقتصادية والأمنية الجماعية، ليس إلى استمرار المجلس فقط، بل أيضاً إلى ضرورة أن يتجاوز المجلس الأسباب الأولية التي ساهمت في إنشائه، والعمل على دعم وضمان المسار التنموي والتكاملي في المنطقة، خصوصاً أن هذا الكيان أصبح حقاً مكتسباً لشعوب المنطقة، ولا يجوز لأحد التفريط فيه مهما كانت الأسباب.
من الواضح أن الخلاف السعودي – البحريني حول إبرام البحرين بشكل منفرد اتفاق التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، يصب في خانة المصالح الأمريكية. فالولايات المتحدة ظلت تمثل، ولعقود طويلة، قوة رئيسية في منطقة الخليج تحت شعار “حماية الأمن الإقليمي”. ومن خلال تضخيمها لمصادر التهديدات الأمنية المحدقة بالمنطقة، نجحت الولايات المتحدة في ترسيخ موقعها كقوة مطلقة النفوذ، وأصبحت تتدخل في جميع شؤون المنطقة بلا استثناء إلى حد أصبح معه من الصعب الوقوف في وجه المصالح الأمريكية أو حتى الاعتراض على إملاءاتها.
وفي الحقيقة، إن الاتفاق البحريني – الأمريكي، يجسد نموذجاً كلاسيكياً للنهج الذي طالما تبنته الإدارات الأمريكية المتعاقبة في مفاوضاتها مع الدول الأخرى، إذ إن الولايات المتحدة كانت، ولا تزال، تفضل التفاوض المنفرد مع دول بعينها، ولا تحبذ التفاوض مع كتلة إقليمية أو منظومة تضم مجموعة من الدول. فالولايات المتحدة تدرك تمام الإدراك، أن التفاوض ضمن الإطار الثنائي يمنحها قوة تفاوضية هائلة على عكس ما يمكن أن تحصل عليه دول مجلس التعاون من منافع وشروط تفضيلية في حال تفاوضها بشكل جماعي.
لكننا، اليوم، نجد أنفسنا أمام واقع قائم. فالبحرين والولايات المتحدة أبرمتا اتفاقاً للتبادل التجاري الحر في سبتمبر من عام 2004. وقد دفع التراشق الكلامي بين الرياض والمنامة ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير عبد الله بن عبد العزيز إلى الاعتذار عن عدم المشاركة في قمة المنامة. لهذه الأسباب، لا بد من إيجاد حل لهذه الأزمة لما فيه مصلحة جميع الأطراف المعنية وبما يخدم مصالح مجلس التعاون الخليجي نفسه. ولعل بودار الخلاف بين السعودية والكويت بشأن تأخير عبور المنتجات والسلع السعودية عبر الحدود المشتركة، يؤجِّج مشاعر القلق في المنطقة. وفي ظل التطورات الراهنة، ومن أجل إيجاد مخرج من الأزمة القائمة، فإنه ليس ثمة من خيار سوى تبني مبدأ إدارة الأزمة بكل تعقل وروية وتفعيل آلية احتواء الأضرار.
فمملكة البحرين، تؤكد أن وزراء الاقتصاد والمالية الممثلين للدول الخمس الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي (باستثناء المملكة العربية السعودية) توصلوا إلى اتفاق خلال قمة المنامة التي عُقدت في ديسمبر من عام 2004، يقضي بأن الاتفاقيات التجارية بين الدول الأعضاء في المجلس والولايات المتحدة تمثل “استثناءً بسبب الرفض الأمريكي لمفهوم التفاوض الجماعي”.
وبالتالي، فإن تخلّي السعودية عن تحفظاتها إزاء الاتفاق البحرين – الأمريكي أو حتى فرض السعودية تعرفة جمركية تبلغ نسبتها خمسة في المائة على السلع الأمريكية المُعاد تصديرها من البحرين، لا يمثل الحل الوحيد في الوقت الراهن. وباعتبار أن الاتفاق قد تم إبرامه بشكل نهائي، ومن المتوقع أن يحظى بسهولة بموافقة الكونغرس الأمريكي، فإنه يتعين على البرلمان البحريني المصادقة عليه في جلسته المرتقب عقدها في أواخر يناير 2005. وكذلك يتحتم على دول مجلس التعاون الخليجي هي الأخرى، مطالبة البحرين بضرورة الالتزام بعدم تفعيل بنود اتفاق التجارة الحرة، قبل أن تستكمل جميع دول مجلس التعاون عقد اتفاقيات مماثلة مع الولايات المتحدة. بالموازاة مع ذلك، يمكن للبحرين حماية مصالحها الخاصة من خلال طرح بند إلزامي مضاد، يشترط ضرورة الانتهاء من المفاوضات لإبرام اتفاقيات التجارة الحرة بين بقية دول مجلس التعاون والولايات المتحدة خلال فترة زمنية لا تتعدى ثلاث سنوات، على أساس أنه، في حال لم يتم الانتهاء من عقد الاتفاقيات في الوقت المحدد، يحق للبحرين المضي قدماً في تنفيذ اتفاقياتها مع واشنطن.
وفي سياق مثل هذا التفاهم، يمكن للمملكة العربية السعودية إلغاء القرار الذي اتخذته في يوليو من عام 2004 بتأجيل تدفق النفط السعودي إلى مملكة البحرين، والذي يصل حجمه إلى خمسين ألف برميل من النفط يومياً، وذلك في انتظار استكمال المحادثات بخصوص تقاسم إنتاج حقل أبو سعفة البحري بين السعودية والبحرين.
ولا شك في أن من شأن هذه الصيغة التوافقية، أن تعيدنا إلى الهدف المنشود المتمثل في إبرام دول مجلس التعاون الخليجي اتفاقيات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة ضمن إطار جماعي، كما هي الحال مع كل من الاتحاد الأوروبي والصين والأردن ولبنان.
على جانب آخر، يبدو أن الخلاف القائم حول اتفاق التجارة الحرة بين البحرين والولايات المتحدة ربما يسهم في تباطؤ وتيرة المحادثات الرامية إلى التوقيع على اتفاقيات للتجارة الحرة بين بقية دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة. وباعتبار أن الأوضاع على الساحة الإقليمية شهدت جملة من التطورات المستجدة، وأن بعض الاختلاف في الرأي يطفو على السطح على غير ما كان معتاداً في الماضي، فقد آن الأوان أن تقوم دول المجلس بإعادة إحياء وتفعيل التوصيات والمبادئ التي ما انفكت تدعو إلى ضرورة تفعيل روح العمل الجماعي.
ومن وجهة نظرنا، فإن مملكة البحرين ستدرك أن المزيد من التنسيق مع الدول المجاورة لا يمكنه سوى الإفضاء إلى نتائج مماثلة، إن لم تكن أفضل بكثير، خصوصاً في ما يتعلق بقطاع التبادل التجاري، وذلك من خلال تدعيم الوحدة الجماعية. فقطاع الألبسة والمنسوجات في البحرين، على سبيل المثال، يمثل ما يربو على ستين في المائة من إجمالي صادراتها نحو السوق الأمريكية ويسهم بأكثر من ثلاثة في المائة في إجمالي الناتج الصناعي المحلي. غير أن هذا القطاع يواجه الآن أزمة متفاقمة، ومن الممكن أن يحقق هذا القطاع أرباحاً طائلة حتى في أسواق الدول المجاورة عن طريق التعاون والتنسيق.
وانطلاقاً من واقع أن حجم التجارة البينية بين دول مجلس التعاون الخليجي تضاعف خلال الأعوام الاثني عشر الماضية من 7،53 مليار دولار أمريكي في عام 1990 إلى 15.14 مليار دولار أمريكي خلال عام 2002. وباعتبار أن اتفاق إقامة منطقة عربية للتجارة الحرة، دخل حيز التنفيذ في الأول من يناير 2005، فإن هناك ما يكفي من الأسباب التي تدعو إلى التفاؤل بخصوص قيام فرص لتحقيق نمو اقتصادي حقيقي على الصعيد الإقليمي الجماعي.