Articles

Articles

Articles

إدارة الرئيس أوباما وهموم العالم العربي: وجهة نظر خليجـــــية

إن المهمة الأولى لإدارة الرئيس باراك أوباما في منطقة الشرق الأوسط تتمحور حول إيجاد معالجات فعالة للمشكلات والتحديات الخطيرة التي ولّدتها السياسات الخاطئة لإدارة الرئيس جورج بوش، وبخاصة في ما يتعلق بالأزمة العراقية، والدور الإيراني في العراق، فضلاً عن التحرك بجدية وفاعلية على طريق تسوية القضايا والتحديات التقليدية التي شكلت – وتشكل – عائقاً لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
وإذا كان من غير المتوقع أن تلقي الإدارة الجديدة بثقلها في قضايا المنطقة قبل مرور نحو عام على الأقل باعتبار أن هناك أوضاعاً داخلية ضاغطة يتعين على الإدارة التعامل معها، فإنه من المهم أن تتحرك تجاه قضايا المنطقة في ضوء الدروس المستخلصة من إخفاقات سياسات إدارة بوش من ناحية، والنظر إلى طبيعة المصالح الأمريكية في المنطقة العربية من ناحية أخرى، لا سيما أن ممارسات إدارة بوش كثيراً ما أحرجت الدول العربية الصديقة للولايات المتحدة، بل أصبحت تشكل عبئاً عليها في بعض الأحيان.
وبناءً عليه، فإنه على صعيد الصراع العربي – الإسرائيلي، يتطلع العرب إلى أن تقوم الإدارة الجديدة بدور أكثر فاعلية وأكثر حيادية في دفع عملية التسوية وفق رؤية جديدة لا تقوم على مجرد الضغط على الجانب الفلسطيني أو تتجاهل بعض القضايا والجوانب الجوهرية المرتبطة بالقضية الفلسطينية، أو تركز على عزل سوريا، أو تطالب العرب بالتطبيع مع إسرائيل قبل التوصل إلى تسوية شاملة ومقبولة، أو تغض الطرف عن السياسات الإسرائيلية العدوانية التي تعوق جهود التسوية.
وبخصوص المسألة العراقية، فإن ما طرحه الرئيس الجديد خلال حملته الانتخابية بشأن تحقيق انسحاب تدريجي للقوات الأمريكية من العراق خلال 16 شهراً، يجب أن يقترن بخطوات فعّالة وإيجابية من أجل تدعيم الجيش والشرطة العراقيين، وتفعيل جهود تحقيق مصالحة وطنية داخلية حقيقية، ودعم عملية إعادة الإعمار، وإفساح مجال أكبر للأمم المتحدة ودول الجوار الجغرافي للمساعدة في جهود تحقيق الأمن واستقرار الأوضاع في العراق. ومن دون ذلك فإن أي انسحاب غير مدروس من العراق قد يؤدي إلى حرب أهلية طاحنة، كما أنه سوف يجعل العراق ساحة خصبة لجماعات التطرف والإرهاب، ناهيك عن كونه سيصيب هيبة الولايات المتحدة الأمريكية في مقتل.
وبغض النظر عن الجدل الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية بشأن الاستغناء عن نفط الشرق الأوسط، فالمؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها سوف يظلون لسنوات مقبلة يعتمدون على نفط المنطقة، لذا فإن قضية أمن الطاقة يجب أن تأتي ضمن أولويات الإدارة القادمة، لا سيما أن هناك أطرافاً دولية كثيرة معنية بهذا الملف. ويمكن لواشنطن أن تقوم بدور أكثر فاعلية في حشد الجهود الدولية لتحقيق هذا الهدف.
وبخصوص مستقبل العلاقات الأمريكية – الإيرانية، وانعكاسات ذلك على دول المنطقة، يمكن القول إنه من حيث المبدأ لا يوجد اعتراض عربي أو خليجي على فكرة قيام إدارة الرئيس أوباما بفتح قنوات الحوار مع طهران، فتأسيس علاقات طبيعية بين واشنطن وطهران لا يُعد مصدراً للقلق، بل سيمثل تطوراً إيجابياً من المتوقع أن يصب في النهاية في مصلحة الأمن والاستقرار الإقليمي. لكن ما يشكل مصدراً للقلق هو قيام واشنطن وطهران في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة بالتوصل إلى عقد صفقة على حساب المصالح الاستراتيجية للدول العربية بصفة عامة والدول الخليجية على وجه التحديد.
إن بروز احتمالات تبني دبلوماسية (الصفقة الشاملة) مع الولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس أوباما سوف يدفع طهران إلى بذل الجهود القصوى من أجل تعزيز موقفها التفاوضي بما يجعلها ترفع سقف مطالبها في حالة الانخراط بترتيبات الصفقة بين الجانبين. لذا فإن العام المقبل قد يشهد تصعيداً تدريجياً في سياسة إيران التدخلية في العالم العربي، وبالخصوص في ساحات المواجهة الرئيسية المتمثلة في العراق ولبنان وفلسطين، كما أن أحد أهداف السياسة الإيرانية الراهنة هو العمل على مقاومة الجهود المبذولة من قبل بعض الأطراف الإقليمية والدولية والرامية إلى تفكيك التحالف الاستراتيجي السوري – الإيراني، إلى جانب سعي طهران إلى تعزيز دورها في العراق والحفاظ على استمراريته، وذلك من خلال ما يلي: وضع العقبات والقيود التي من شأنها منع الولايات المتحدة من الحصول على تفويض عراقي يمنح الشرعية لبقاء القوات الأمريكية في الأراضي العراقية، أو على أقل تقدير تخفيض السقف الزمني لبقاء هذه القوات، وتشجيع ودعم مشروع قيام (الإقليم الشيعي) أو إقليم الجنوب في حالة تمكن الأكراد من تأسيس وإعلان (إقليم كردستان)، فالإقليم الشيعي سيرتبط استراتيجياً بإيران، فضلاً عن الاستمرار في تقديم مختلف أشكال الدعم لكافة الفئات والأحزاب الشيعية من أجل ضمان استمرارية نفوذها المؤثر في الساحة العراقية، ومن ثم ضمان تحقيق أهداف إيران الاستراتيجية في العراق.
وفي ضوء ما سبق، فإن ملف إيران النووي وطريقة معالجته، يأتيان في مقدمة القضايا التي ستكون لها انعكاساتها على منطقة الخليج بصفة خاصة والمنطقة العربية بصفة عامة. ويتمثل التحدي الرئيسي هنا في حقيقة فشل العقوبات الاقتصادية والمالية في التأثير الفعال في الموقف الإيراني. ولذلك فإن القيادة الإيرانية تأمل بصفقة مع واشنطن قد تتضمن (غضّ الطرف) عن البرنامج النووي الإيراني والسماح باستمراره من دون ضغوط أمريكية أو دولية كبيرة. وفي حالة الفشل في تضمين مشروع الصفقة قضية مستقبل البرنامج النووي الإيراني فإن التطورات المستقبلية بخصوص هذا الملف، يمكن تحديدها بالمسارات التالية:
1- تصعيد كبير في العقوبات غير العسكرية المباشرة (اقتصادية ومالية ودبلوماسية) التي ستفرضها الإدارة الأمريكية على طهران، مما يستوجب على دول الخليج أخذ ذلك في الاعتبار في تعاملها المستقبلي مع إيران.
2- في حال فشل نظام العقوبات الدولية في توليد الضغوط الكافية لإخضاع إيران لقرارات الشرعية الدولية، فإن بديل العمل العسكري سيحصل على مزيد من الشرعية الدولية والقبول السياسي.
3- تبقى احتمالات شن عمل عسكري ضد إيران خلال السنة الأولى من تولي الرئيس الأمريكي الجديد زمام السلطة غير واردة أو ضعيفة إلى حد كبير، فالرئيس الأمريكي الجديد سيحتاج إلى السنة الأولى من رئاسته لتثبيت إدارته الجديدة والتعامل مع التحديات الداخلية، وسيحاول قدر الإمكان تجنب التورط في مغامرة عسكرية خارجية. لكن احتمالات العمل العسكري قد ترتفع بمرور الزمن في حالة عدم التوصل إلى تسوية مرضية لأزمة الملف النووي الإيراني. وبالمقابل فإن القيادة الإسرائيلية ستحاول تجنب إحراج الرئيس الأمريكي الجديد خلال فترة رئاسته في السنة الأولى، ولن تلجأ إلى العمل العسكري إلا في حالة الحصول على معلومات تؤكد حدوث تقدم كبير في مسعى إيران لتطوير السلاح النووي أو حدوث تحدٍّ خطير من إيران يبرر العمل العسكري.
ولذلك، فإن المطلوب من الرئيس أوباما وإدارته القادمة هو العمل على احتواء الطموحات الإيرانية المتنامية شريطة ألا يكون ذلك على حساب المصالح الخليجية بصفة خاصة والعربية بصفة عامة، فضلاً عن التعامل مع مشكلات وقضايا العراق، والصراع العربي – الإسرائيلي، والحرب ضد الإرهاب، ودارفور، والإصلاح في دول المنطقة وفق رؤى وسياسات جديدة تعيد للولايات المتحدة الأمريكية مصداقيتها، وتعزز من فرص الأمن والاستقرار في المنطقة.
وفي كل الحالات، فإن التغيير في سياسة واشنطن في المنطقة سيتوقف في جانب مهم منه على مدى نجاح الدول العربية في بلورة رؤى وسياسات مشتركة لإدارة علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من القوى الدولية والإقليمية الكبرى. أما الاستمرار في سياسة رد الفعل وانتظار أن تأتي المبادرات من واشنطن أو غيرها من العواصم، فإن ذلك لن يخدم القضايا العربية كثيراً سواء أكان ساكن البيت الأبيض هو أوباما أم غيره.

Articles

قمة (العشرين) والأجندة الخليجــــــــية

جاء انعقاد قمة العشرين في واشنطن من أجل بدء سلسلة من الاجتماعات لمناقشة الأزمة المالية التي تعصف بالعالم في الوقت الراهن. ولا شك في أن دول مجلس التعاون الخليجي سوف تشكل طرفاً مهماً في فعاليات هذه الاجتماعات. وفي الوقت الذي تمثل فيه المملكة العربية السعودية مشاركاً مباشراً محورياً، ستكون بقية دول المجلس حريصة على متابعة فحوى ونتائج المناقشات.
ومن المؤكد أن هذه الدول الخليجية تأثرت برياح الأزمة المالية على غرار العديد من بلدان العالم الأخرى، على الرغم من كونها تمتلك احتياطيات مالية هائلة باعتبار موقعها العالمي كأهم الدول المنتجة للنفط. وفي واقع الحال فإن دول مجلس التعاون سوف تتعرض بطريقة ما لضغوط متوقعة، حيث يُنتظر أن يُطلب منها لعب دور بنّاء لحلحلة الأزمة المالية الحالية. وبالفعل فقد أكد الرئيس الأمريكي جورج بوش أهمية مشاركة المملكة العربية السعودية في القمة. وبنفس المعنى، فإن رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون دعا الدول الخليجية إلى المساهمة في صندوق جديد يخطط لإنشائه تحت مظلة صندوق النقد الدولي.
ومن المهم في سياق هذه التوجهات التذكير بأن دول المجلس لعبت في الماضي دوراً مساهماً في دعم وتكريس استقرار الأسواق المالية العالمية من خلال اتخاذ قرارات استثمارية تخدم هذا الهدف أو عن طريق سعيها للحفاظ على توازن أسعار سوق النفط وانتظام تدفق الإمدادات إلى أسواق الطاقة في العالم. ومن غير المتوقع أن يطرأ أي تغيير على هذا الموقف. لذا فمن المهم ألا تنحصر دائرة المناقشات المرتقبة حول الأزمة المالية الحالية في جدول أعمال اقتصادي وحسب، بل من الضروري أيضاً أن تتناول المباحثات السياق السياسي في صورته ودلالاته الأوسع، التي تتطرق للكيفية التي يتم من خلالها التعاطي مع هذه الأزمة والطريقة التي تبلورت بها.
ويمثل هذا الجانب من الأزمة بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي بنداً مهماً على جدول الأعمال، وينبغي أيضاً للدول التي شاركت في الاجتماع، بما في ذلك الولايات المتحدة، إدراك أن التعامل مع موقع وأهمية دول مجلس التعاون الخليجي من حيث قوتها الاقتصادية لم يعد كافياً.
ولعل الدوافع للمطالبة بجدول أعمال يتجاوز الشأن الاقتصادي تتمثل في واقع أن الأزمة المالية العالمية الراهنة لا يمكن، بل لا ينبغي، التعاطي معها بمعزل عن ملابساتها وحيثياتها الأخرى. فهذه الأزمة تجسد مظهراً من مظاهر سلسلةٍ متشابكة ومتقاطعة من المشكلات التي لا تزال عالقة من دون حلٍ شافٍ، بل إن هذه الأزمة تمثل تتويجاً لتلك التطورات والمشكلات التي أدت إلى تراكم التوترات التي تؤرق مضاجع النظام السياسي والأمني والاقتصادي الدولي، وهي توترات تتسبب في إحداث شروخ واضحة وعميقة في بنية النظام الدولي.
وإذا ما أراد المرء إيجاد مقارنة للوضع القائم حالياً، فبالإمكان النظر إليه من منظور دراسة الزلازل، حيث تكون الطبقات التكتونية في حراك دائم، وتقترب من بعضها البعض أو تبتعد عن بعضها البعض. ويؤدي هذا الحراك إلى تفاقم درجات الضغط عند نقطة تلامس الطبقات، ويصبح من الضروري إيجاد طريقة لتنفيس الضغط إما عن طريق إحداث عمليات تكيف محدودة مع مستوى الضغط (وتحدث وقتها زلازل خفيفة) أو عن طريق وقوع زلازل كارثية.
إننا اليوم نشهد حدثاً مزلزلاً يقع مركزه في الولايات المتحدة وفي النظام المالي العالمي، لكن روافده وأصوله لا تنحصر في النظام المالي في الولايات المتحدة بمفردهما. فالنظام العالمي راكم ضغوطاً شديدة على مستوى الطبقات التي تشكله، وتتمثل تلك الطبقات في القائمة المدرجة أدناه، علماً بأن هذه القائمة ليست بالضرورة شاملة لكافة العناصر:
التجارة الدولية، التي شهدت خطوات متسارعة نحو تحقيق العولمة ترافقت مع حدوث تحول عمليات إنتاج السلع والمنتجات التقليدية من البلدان الصناعية لتجد لها موطئ قدم في البلدان النامية، مما أدى إلى تعميق الاختلالات التجارية، وما واكبها من مشكلات متعاظمة في أسواق العمل في البلدان الصناعية وأفول نجم الأنشطة الصناعة في تلك البلدان بشكل تدريجي. وقد بات من شبه المستحيل استمرار هذه التوجهات، بمعنى أن أي تصور مستقبلي لهذه التطورات يفرز رؤية غير مقبولة، ويطغى عليها طابع التناقض الصارخ. وبالتالي لا بد من البحث عن مخرج ما لهذه المعضلة، ليس بالضرورة من خلال تغيير كامل للسياسات الليبرالية القائمة على مبدأ تحرير الاقتصاد من أصفاده التقليدية، لكن من خلال انتهاج سياسات تؤطرها الأيديولوجية الليبرالية بدرجة محدودة ومعقولة لممارسة التجارة الحرة، مع ضرورة الإبقاء على بعض الاستثناءات والحفاظ على درجة من تدخل الدولة في الاقتصاد. ولعل بعض المؤشرات لهذا التوجه برزت فعلاً بشكل واضح في الآونة الأخيرة.
نظام الطاقة الدولي، الذي يتسم باختلال عميق بين الولايات المتحدة وبقية البلدان الصناعية على مستوى نصيب الفرد من استهلاك الطاقة، وبين البلدان الصناعية والبلدان النامية، بل هناك غياب للتوازن حتى بين الدول النامية والبلدان الفقيرة، بما في ذلك كافة دول القارة الإفريقية تقريباً، حيث لا يحصل مليارات من البشر على الإطلاق على الطاقة الخاصة بالاستخدامات التجارية. كما أن احتياطيات الوقود الأحفوري المتوفر والاعتبارات البيئية تشير بوضوح إلى أن نمط استهلاك الطاقة كما تعرفه حالياً الدول الصناعية (ومعها دول مجلس التعاون) لا يمكن تعميمه. وبالتالي فمن الضروري التفكير ملياً في السبل الكفيلة بإحداث تغيير جذري من أجل تمهيد الطريق لسيناريو مستقبلي مقبول يعالج الاختلال في مستوى نصيب الفرد من استهلاك الطاقة في العالم.
نظام الأمن الدولي، الذي اتسم منذ العقود القليلة الأخيرة بهيمنة شبه مطلقة لقوة عظمى واحدة لا ينازعها أحد على عرش قيادة العالم، لكن قوتها العسكرية الهائلة أثبتت بشكل لا يسمح بمجرد الشك أنها عقيمة على ضوء فشلها الذريع في تحقيق الأهداف المنشودة. فالولايات المتحدة لم تتمكن من كسب الحرب لا في العراق ولا في أفغانستان، ووجدت نفسها مكتوفة الأيدي في مواجهتها مع إيران. وبهذا المعنى، فإن الولايات المتحدة تبدو كالقوة العظمى عديمة الفائدة. فمن جهة تملك واشنطن القدرة والقوة لتدمير العالم، لكنها من جهة أخرى غير قادرة على فرض إرادتها الأحادية على العالم. وبالفعل، يتعذر الاستمرار في هذا النهج لأمد طويل، حيث يُرجح أن يمثل ملف الحد من انتشار الأسلحة النووية محوراً من شأنه أن يساهم في تغيير سريع لمجرى التطورات الدولية. واليوم تجد القوى النووية نفسها أمام اهتمام متصاعد باقتناء الطاقة النووية تصاحبه استحالة كبح جماح الطموحات النووية لإيران أو كوريا الشمالية أو أية دولة أخرى، وبالتالي ستضطر تلك القوى إما إلى الاعتراف بالهزيمة أو الانصياع للأمر الواقع وتقليص ترساناتها النووية. ومن ثم يُتوقع أن تعيد واشنطن في الأشهر والسنوات المقبلة التفكير في استراتيجيتها العسكرية بشكل كامل.
النظام المالي الدولي، وهو الجانب الذي يمكن اليوم استيعابه بشكل أسهل. فقد ظل النظام المالي لسنوات طويلة قائماً على أساس إلغاء القيود والضوابط التنظيمية للتبادل التجاري وتشجيع المديونية المفرطة بالنسبة للشركات والمستهلكين الأمريكيين بالموازاة مع تصاعد حجم الديون الحكومية وتزايد العجز التجاري، علماً بأن هذا التوجه كان مبنياً على فكرة أن هذه مشكلة بقية العالم، وليست مشكلة الولايات المتحدة فقط. وقد كان متوقعاً من بقية العالم أن يظل إلى الأبد راضياً وسعيداً بشراء الأصول الأمريكية ـ وهذا ما استمر عليه الوضع بشكل عام لعقود طويلة- إلا أن النظام المالي داخل الولايات المتحدة نفسها تعرض للانهيار.
ومن اللافت أن الأزمة المالية الراهنة اندلعت من داخل سوق الرهن العقاري الأمريكي، ولم تتولد عن أزمة عالمية ترتبط بتراجع الثقة بالاقتصاد الأمريكي أو الدولار. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن الوضع المالي للولايات المتحدة أصابه الوهن والهشاشة الواضحة على مدى سنوات عديدة، لكن صندوق النقد الدولي ومعه الكثيرون عبر العالم ظلوا على أمل في أن هذا النظام سوف يتعافى. غير أن التعافي المأمول تحول إلى انهيار السوق المالي العالمي، وأصبح من الضروري تأسيس قواعد جديدة للنظام المالي.
إن كل ما ذُكر أعلاه يدعم الطرح بأنه من غير الممكن معالجة الأزمة المالية الراهنة من دون التعاطي مع بعض القضايا السياسية. وبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، يستدعي هذا الواقع التركيز على مجموعة من الملفات الرئيسية على النحو التالي:
* ضرورة الحصول من الولايات المتحدة على التزام واضح بأنها سوف تدعم عملية الاندماج الإقليمي داخل منظومة دول مجلس التعاون، وكذلك بالنسبة لبقية الدول العربية، علماً بأن الولايات المتحدة لم تتعامل لفترة طويلة وبانتظام مع دول مجلس التعاون على قدم المساواة، وأصبح من الضروري اليوم أن يتم وضع حد لهذا الموقف. وضمن إطار ما سبق، ينبغي لدول مجلس التعاون الخليجي أن تسعى إلى الحصول على التزام من قبل واشنطن للعمل من أجل التوصل إلى صياغة وتفعيل نظام أمني إقليمي يقوم على أساس بناء الثقة المتبادلة بصورة تدريجية، بدلاً من التركيز على الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة.
* ضرورة الحصول على ضمانات بأن النظام التجاري الدولي سوف تتم إعادة صياغته على نحو لا يتعارض مع مصالح دول مجلس التعاون الخليجي، بمعنى أن أي نظام تجاري جديد ينبغي أن يوازي بين طابع الانفتاح على التجارة الدولية والسماح بتدخل الدولة بهدف تحقيق الأهداف الإنمائية المخطط لها. وعلى الرغم من صعوبة تطبيق هذا المبدأ إلا أن الفكرة العامة المؤطرة له واضحة.
* ضرورة الحصول على ضمانات ببذل جهود جادة لإعادة تفعيل ملف الحد من انتشار الأسلحة، بما في ذلك الدخول في مفاوضات لخفض الترسانة النووية التي تمتلكها الدول النووية بشكل ملموس والضغط على كافة الدول للتوقيع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية.
* ضرورة الحصول على ضمانات بألا يسمح النظام المالي الدولي الجديد بحدوث اختلالات منهجية حتى في الولايات المتحدة، وبأن تتمتع الاستثمارات الدولية بالحرية ضمن إطار قواعد واضحة، من دون ممارسة أي تمييز ضد صناديق الثروة السيادية.
ضرورة مطالبة الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بدعم المبادرات الدبلوماسية الرئيسية التي أطلقتها المملكة العربية السعودية وترتبط كلها بالأزمة الإقليمية، وهي:
* مبادرة الملك عبدالله (التي أصبحت مبادرة عربية) لحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
* موقف الحكومة السعودية إزاء بناء عراق موحد تشارك جميع أطيافه في الحكم ومن دون أي تدخل خارجي.
* المبادرة السعودية للتعامل مع إيران في سياق إقليمي شامل يضم إيران والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي.
* مبادرة الملك عبدالله للحوار بين الأديان.
* دعم الجهود السعودية في رعاية الحوار بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان.
ومن الواضح أن كافة النقاط المذكورة أعلاه تمثل جوانب أساسية تعكس رؤية شاملة تتطلب من دول مجلس التعاون الخليجي مواصلة المناقشة بشأنها ضمن إطار المباحثات حول الأزمة المالية العالمية الحالية، خاصة أن الحلول الفردية والمجزأة لم ولن تحقق النجاح المنشود، علماً بأن الوقت قد حان فعلاً لاعتماد مقاربة شاملة.

Articles

أوباما وماكين والسياسة الخارجية الأمريكـــــــية

ليس من المستغرب أن يعيش العالم، والدول العربية على وجه الخصوص، حالة من الترقب في انتظار ما ستُسفِر عنه الانتخابات الأمريكية التي ستُحسَم خلال الأيام القليلة المقبلة؛ وذلك لما للسياسة الأمريكية من انعكاسات مباشرة على المجتمع الدولي بصفة عامة وعلى المنطقة العربية بصفة خاصة. وبنظرة على تصريحات ومناظرات كل من المرشحين باراك أوباما وجون ماكين نستطيع أن نستشرف بعض توجُّهات السياسة الخارجية الأمريكية خلال الأربع سنوات المقبلة في حالة تولي أي من الديمقراطي أوباما أو الجمهوري ماكين مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية.
على الجبهة العراقية، يُعارِض أوباما الحرب على العراق منذ البداية، ولا يؤيد اللجوء إلى الحلول العسكرية، كما يؤيد انسحاباً تدريجياً للقوات العسكرية على مراحل تستغرق ستة عشر شهراً، واستخدام الجيش العراقي لمراقبة الحدود مع دول الجوار، ومنع هذه الدول من إرسال مقاتلين إلى الأراضي العراقية.
من الناحية الأخرى نرى أن ماكين يؤيد بقوة زيادة عدد القوات الأمريكية في العراق، ويطالب ببقاء هذه القوات إلى أن يصبح العراق قادراً على حماية نفسه بنفسه، لأنه يميل إلى الاعتقاد بأن أية خطط للانسحاب ستؤدي إلى حالة من الفوضى في المنطقة، ويرى أن قرار غزو العراق كان صحيحاً، ولكن تمت إدارة الحرب بشكل سيئ، ويتوقع أيضاً أن تكون هذه الحرب طويلةً وصعبةً، وأعرب عن أمله بأن القوات الأمريكية ستنسحب مرفوعة الرأس بحلول عام 2013.
وفي ما يتعلق بإيران، فإن أوباما يبدو أكثر ميلاً للدبلوماسية المباشرة، ويطالب بتبني سياسة مناقضة لسياسة بوش وتشيني تدعو إلى عدم إجراء محادثات مع سوريا وإيران. ومن هذا المنطلق أعرب عن استعداده لمقابلة بعض المسؤولين الإيرانيين من دون شروط مسبقة قبل أن يتراجع مؤكداً على ضرورة الاتفاق على جدول أعمال قبل بدء المحادثات. لكنه طالما أكد أن إيران يمكن أن تُغيِّر من تصرفاتها إذا قُدِّمت لها الحوافز الصحيحة، مثل قبولها كعضو في منظمة التجارة العالمية، وعلى الرغم من اعترافه بأن البرنامج النووي الإيراني يمثِّل تهديداً لا يمكن التغاضي عنه إلا أنه يعارض أي دعم أو تفويض يُعطَى لإدارة الرئيس جورج بوش لشن حرب جديدة أو توجيه ضربات عسكرية لطهران، علماً أنه لا يستبعد القيام بعمل عسكري في حال فشل المفاوضات السلمية، ويؤيد تشديد العقوبات المفروضة على إيران، والعمل على إقامة إطار تعاون أمني جديد مع حلفاء أمريكا في منطقة الخليج.
أمّا ماكين فيُبقِي الحرب خياراً قائماً في مواجهة إيران، ويعمل على تعزيز العقوبات الاقتصادية على إيران، مما يعني في المقام الأول تحالفاً أكثر قوة مع الدول الأوروبية. كما يعتقد ماكين أن سعي إيران للحصول على أسلحة نووية يشكل مصدر تهديد غير مقبول لدى أمريكا، ويكرر دائماً أن (هناك شيئاً واحداً أسوأ من العمل العسكري، ألا وهو وجود إيران نووية).
وفي ما يتعلق بالديمقراطية، تعهد أوباما بزيادة الاعتمادات المالية للمؤسسة الوطنية الديمقراطية وغيرها من المؤسسات غير الحكومية لدعم النشطاء المدنيين في المجتمعات التسلطية أو شبه الديمقراطية، كما أعلن نيته إقامة صندوق للدعم السريع للديمقراطيات الناشئة والمجتمعات التي تمر بمرحلة ما بعد النزاع؛ وذلك لتقديم الإعانات وإلغاء الديون، وأيضاً تقديم الدعم التقني والمشاريع الاستثمارية بما يعزز من فرص الديمقراطية والاستقرار. كما قال أوباما: إن على الولايات المتحدة أن تعزز عملية نشر الديمقراطية؛ وذلك بتقديم نفسها كمثال يُحتذَى به عن طريق منع التعذيب وإغلاق معسكر الاعتقال في غوانتانامو، إلا أنه لم يؤطر خطابه حول منطقة الشرق الأوسط بمعايير الديمقراطية وانتشارها.
أما ماكين فيرأس مجلس إدارة مؤسسة الجمهوريين العالمية والتي تلتزم بتعزيز مسيرة الحرية والديمقراطية في العالم؛ وذلك عن طريق تشجيع إنشاء المزيد من الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية والانتخابات الشفافة والحكم الصالح وحكم القانون، ويدعو ماكين إلى تعزيز الديمقراطية وانتشارها في منطقة الشرق الأوسط. وفي هذا السياق صرّح في عام 2005 قائلاً (لا يمكن الفصل بين الديمقراطية والحرية من ناحية، وأمن الولايات المتحدة على المدى الطويل من ناحية أخرى). وتجدر الإشارة كذلك إلى أن ماكين أعلن تأييده لقانون تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط، عندما قال (إذا كان البديل لنشر وتعزيز الديمقراطية هو العودة إلى الأيام التي كنا ندعم فيها الأنظمة غير الديمقراطية والمؤيدة للولايات المتحدة فأنا أقول إن هذا ثمن لا نقدر على دفعه. نحن نعرف الآن المخاطر المترتبة على ذلك).
وحول الصراع العربي – الإسرائيلي، يبدو أن هناك تطابقاً في الموقف؛ فقد صرّح أوباما بأن حق إسرائيل في الوجود ليس مطروحاً للمناقشة، وأن على أي اتفاق يمكن التوصل إليه أن يحفظ (هوية إسرائيل كدولة يهودية)، وأن القدس ستبقى عاصمة لإسرائيل ويجب عدم تقسيمها. ولم يكن أوباما راضياً عن قرار الرئيس الأسبق جيمي كارتر لقاء مسؤولين من حركة حماس، واصفاً هذه الخطوة بـ (الفكرة السيئة)، كما صرّح بأنه لن يتفاوض مع حزب الله، إلا أنه يدعم جهود أمريكا لتقديم الدعم للشعب الفلسطيني ولأية حكومة تتخلى عن العنف، وتعترف بحق إسرائيل في الوجود.
أما ماكين فإنه يصر على أن على الولايات المتحدة الأمريكية الاستمرار في دعمها لإسرائيل بما في ذلك تقديم المعدات والتجهيزات والتقنيات العسكرية وضمان استمرار تفوقها العسكري النوعي، ويدعو إلى استمرار الجهود المبذولة لتحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، لكنه يؤيد عزل قيادة حماس، كما انتقد الرئيس الأسبق جيمي كارتر لاجتماعه ببعض مسؤولي حماس، ووصف الاجتماع بـ (الخطأ الفادح والخطير). ويميل ماكين إلى الاعتقاد بأن تحقيق السلام بين إسرائيل ولبنان يعتمد على قيام حكومة شرعية تحتكر السلطة في لبنان.
وعلى صعيد الأزمة الاقتصادية التي تهدد الاقتصاد الأمريكي، فبرغم اتفاق أوباما وماكين على دعم جهود الكونغرس للتوصل إلى اتفاق على خطة إنقاذ بـ 700 مليار دولار، فإنهما تحاشيا التصريح بموقفيهما من الخطة ذاتها، وقالا إنهما حذّرا سابقاً من وقوع هذه الأزمة. ولا أعتقد أن حرص كل منها على تغاضي الخوض في أسباب الأزمة الاقتصادية وتبعاتها الكارثية كان محض مصادفة، فهما يعرفان أكثر من غيرهما أن الأزمة الاقتصادية أنهت ريادة واشنطن كقاطرة للاقتصاد العالمي ومستقطب لرؤوس الأموال والاستثمارات من سائر دول العالم. لقد تراكمت الأزمة الأمريكية على مدى سنوات، بل عقود متتالية، وجاءت أزمة الرهن العقاري وتداعياتها كالشعرة التي قصمت ظهر البعير ولتفاجئ العالم بأن الولايات المتحدة الأمريكية ليست بالقوة التي تدعيها لا على الصعيد الاقتصادي ولا العسكري، لاسيما أنها كانت قد خسرت حرب كوريا عام 1950 وحرب فيتنام (1961-1975)، وأجبرت على الانسحاب من لبنان عام 1982 والصومال عام 1993. وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية لا تزال تصرّ على تحقيق تقدم في أفغانستان والعراق، إلا أنها تعترف ضمناً بأنها خسرت الحرب في البلدين.
إن الميزانية العسكرية الأمريكية تعادل ميزانية دول العالم الأخرى مجتمعة، لكن ذلك لم يضمن لها استمرارية تفردها بقيادة العالم. لماذا؟ لأنه لا يمكن للجيش أن يكون أقوى من الاقتصاد الذي يموله.
وبناء على ما تقدم، ليس من قبيل التكهن القول إن العالم أحادي القطبية بقيادة واشنطن قد ولى إلى غير رجعة. ستبقى أمريكا دولة عظمى، لكنها ستضطر إلى أن تشارك دولاً أخرى مثل الصين والهند وروسيا واليابان وفرنسا وألمانيا والسعودية وفنزويلا وغيرها إدارة الشؤون العالمية.
لقد وقعت أمريكا ضحية سياساتها المتناقضة والتي أضرّت بمصالحها ومصالح الغالبية العظمى من شعوب العالم.
إن القوى التي تهدد الأمن الأمريكي لم تخرج إلا من رحم ممارسات واشنطن وتوجهاتها التي قامت على الإفراط في استخدام القوة من دون أن تدرك أن للقوة حدوداً. وعلى الرغم من أن أمريكا لن تتوقف عن محاولاتها لحماية نظامها الاقتصادي ومصالحها الحيوية، إلا أنه يحدونا الأمل بأن يستفيد الرئيس القادم، جمهورياً كان أم ديمقراطياً، عبر الماضي، ويعيد إلى تمثال الحرية ولو شيئاً من اسمه.

Articles

واقع التعليم وآفاقه في دول مجلس التعاون الخليجـــــي

يجمع المكلفون بمهمة الارتقاء بمستوى الموارد البشرية في دول مجلس التعاون على أن التعليم سيبقى أحد أهم الأعمدة الأساسية التي تقوم عليها التنمية المستدامة وتعزيز القدرة على مواجهة التحديات، في عالم متسارع التغير ومتزايد التعقيد والتشابك، على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية كافة. ولكن ما أن يطرح موضوع التعليم على طاولة البحث حتى يسارع البعض إلى وضع نظارته السوداء ليحصر اهتمامه بالأزمات التي تكتنف مدخلاته ومخرجاته وعملياته، وعدم ملاءمة محتواه وإدارته، وتخلف طرائق تدريسه، ووقوعه بين فكي الرسوب والتسرب، وغياب الرؤية الشاملة له في علاقته باحتياجات سوق العمل ومنظومات التنمية الأخرى، والقائمة تطول.
وهنا يتساءل المرء، كيف لمثل هؤلاء أن يتناسوا أنه على الرغم من حداثة قطاع التعليم في دول المجلس، إلا أنه حقق قفزات كمية ونوعية متميزة. فالإحصائيات المتوافرة تؤكد أن هناك ما يزيد على ستة ملايين طالب من مواطني دول المجلس مسجلين في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، بالإضافة إلى ما يزيد على سبعمائة ألف مسجلين في التعليم العالي. إلا أن الوتيرة المتسارعة للتغيرات على الصعيدين المحلي والعالمي تجعل التعليم، شأنه شأن العديد من القطاعات الأخرى، بحاجة مستمرة للمراجعة والتقييم والتطوير لنساعد أبناءنا على اكتساب القدرة على التكيف مع هذه المتغيرات ومواجهة التحديات والاستفادة من الفرص التي يوفرها التعليم والتي تمثل الأسس الراسخة التي تقوم عليها التنمية الشاملة والمستدامة.
واقتناعاً منا بأهمية عملية المراجعة والتقييم بهدف تحقيق أفضل النتائج الممكنة في عملية التحول الاجتماعي القائمة على رؤية مستقبلية وأسس استراتيجية، فإنه لا بد من الاعتراف بأن لدى دول المجلس الكثير الذي يمكن أن تكتسبه من عملية التحديث النوعي لنظامها التعليمي؛ وذلك لمسايرة المتطلبات التي يقتضيها مجتمع المعرفة.
لقد تجسد اهتمام الجامعات في دول المجلس بالارتقاء بمستوى التعليم من خلال الحصول على الاعتماد الأكاديمي من مؤسسات أكاديمية عالمية مرموقة. كما نجحت العديد من دول المجلس في تقديم كافة التسهيلات الممكنة، وشجعت بعض أرقى الجامعات في العالم على فتح فروع لها في هذه الدول. إلا أن انطلاقة الجامعات الخليجية لا تزال تعاني بعض المعوقات التي تعترض طريقها. فقد كان لتواضع مستوى الالتزام بمعايير الجودة المتعارف عليها في الدوائر الأكاديمية، وعدم اكتمال اللوائح والتشريعات الخاصة بالمؤسسات الأكاديمية آثار سلبية على مخرجات التعليم. كما حرمت مركزية القرار التعليمي الجامعات من أن تتخذ قراراتها المناسبة. فمراعاة الاحتياجات الحقيقية للتنمية ومتطلباتها، ثم السعي بعد ذلك إلى وضع اللوائح والمقررات التعليمية لتلبيتها يبقيان دائماً أحد أهم شروط النجاح. وفي هذا السياق فإن الأولوية يجب أن تعطى للعمل على تنمية الموارد البشرية اللازمة وتشكيل الهيئات الأكاديمية المتخصصة في تقييم ومتابعة ومراقبة جودة الخدمات التعليمية والإدارية والبناء على ما تم من إنجازات في هذا المضمار.
وفي هذا السياق، فإن إيجاد قاعدة بيانات لتوفير المعلومات الضرورية سيسهم حتماً في اتخاذ القرارات السليمة والمفيدة، والتي تشجع على التعاون والتكامل. أضف إلى ذلك ضرورة تكثيف استخدام التكنولوجيا في التعليم وترسيخ قناعة الأكاديميين بضرورة مواكبة المستجدات وتحديث معلوماتهم ومشاركتهم الجادة في الأبحاث والدراسات، الأمر الذي سيعود بالفائدة على عملية التعليم ومخرجاتها. ولا يفوتني في هذا المقام التأكيد على ضرورة تبادل التجارب والخبرات فيما بين الجامعات في دول المجلس وعدم الاكتفاء بالخبرات المستوردة من الجامعات الأجنبية، والتي لا تتوافق في كثير من الأحيان مع واقع مجتمعاتنا وجامعاتنا.
على صعيد آخر، يشهد العالم الآن تحولات هائلة في النماذج الاقتصادية، فالنظم الاقتصادية القائمة على المفهوم الجغرافي، وقوانين التجارة والتعرفة الجمركية والانتشار البطيء للاكتشافات العلمية والتقنية والدورة الطويلة للإنتاج، تراجعت أمام اقتصاد المعرفة واختراق الحدود الجغرافية والانتشار السريع للعلوم والتقنيات والأشخاص ورؤوس الأموال والخدمات ووسائل الإنتاج. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة هو: كيف يمكن التعامل مع هذه البيئة الاقتصادية الجديدة؟
لقد استخدمت أنظمة التعليم، وبكثافة، تقنية المعلومات والاتصالات للارتقاء بمستوى مخرجات التعليم، إلا أن أسس تعليم الطلاب لم تتغير كثيراً، بحيث تصبح أكثر توافقاً مع التغيرات الهائلة في الاقتصاد. فلم يتم حتى الآن -على سبيل المثال لا الحصر- دمج تقنية المعلومات والاتصالات بصورة منهجية في قلب العملية التعليمية، ولا سيما في عمليات تعليم وتأهيل المعلمين أو في عمليات تطوير المناهج المدرسية.
ويتمثل التحدي الحقيقي الذي يواجه النظام التعليمي في ضرورات الانتقال من مفاهيم القرن العشرين والعمل على إصلاح هذا النظام، على النحو الذي يجعل الطلاب قادرين على امتلاك المعرفة والمهارات التي تمكنهم من التعامل مع النماذج الاقتصادية الجديدة للقرن الحادي والعشرين. ويمكن تلخيص أهم المتطلبات الجديدة فيما يلي:
* التعليم القائم على السعي الجماعي لاكتساب المعرفة والخبرة بدلاً من الاعتماد على الجهود الفردية المبعثرة.
* التعليم القائم على ضرورة اكتساب الخبرة، وإعطاء الفرصة لمراجعة الدروس والعبر المستقاة بهدف العمل على تحسينها.
* ربط التطور العلمي بعملية النمو الاقتصادي، والعمل على تحقيق هذا الترابط من خلال التنسيق، وإقامة شراكة استراتيجية بين القطاعين الحكومي والخاص بهدف إجراء تعديلات جذرية في التخطيط وصنع القرارات في القضايا التي تتعلق بالطلاب والأعمال والمجتمع.
* إن تحقيق الأهداف المرجوة في هذا الإطار يتطلب تعليم الجمهور والطلاب والمعلمين من خلال إطلاعهم على المستجدات التي طرأت على الاقتصاد العالمي الجديد ومدى تأثير ذلك في التعليم الأكاديمي وعملية التعليم التي تستمر مدى الحياة.
* وضع الأطر الصحيحة للتحولات الاقتصادية القادرة على تلبية احتياجات المجتمع خلال القرن الحادي والعشرين.
* إقامة شراكات إقليمية متينة وإنشاء شبكات لجعل التعليم أكثر توافقاً مع عملية التنمية الاقتصادية.
* التشديد على تحقيق مخرجات تعليم تتمتع بالمعرفة والمهارات، وذلك من خلال إدخال الإصلاحات المطلوبة في مراحل التعليم الأولى للأطفال صعوداً إلى التعليم العالي.
* اعتماد تقنيات ومفاهيم التعليم الجديدة ودمجها في كافة مراحل التعليم التي تقوم على نماذج تعليمية اعتمدت أصلاً على أبحاث ومعطيات جديدة تتوافق وروح ومتطلبات الاقتصاد الجديد.
وأخيراً يبقى التعليم أداة لتحقيق هدف معين، ولذلك فإن تحديد معالم وطبيعة هويتنا وتوضيح رؤيتنا وأهدافنا وأيضاً تحديد احتياجاتنا وفهم البيئة المحيطة بنا ومتغيراتها، كل ذلك سيساعدنا بالتأكيد على تحقيق الاستفادة القصوى من أداة التعليم التي طالما حققت المعجزات.

Articles

أسواق العمل الخليجية: مشكلات قديمة لا تزال تبحث عن حــلول

تعاني دول مجلس التعاون الخليجي، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، خللاً واضحاً في هيكل التركيبة السكانية وقوة العمل. وهذه ظاهرة قديمة ارتبطت بالطفرة النفطية الأولى التي حدثت على أثر حرب أكتوبر عام 1973، وما ترتب عليها من ارتفاع كبير في أسعار النفط وعائداته. فعلى خلفية ذلك اتجهت حكومات الدول الخليجية إلى توظيف جانب من العائدات النفطية في تنفيذ برامج طموحة للتحديث الاقتصادي والاجتماعي وإقامة مشاريع البنية التحتية. ونظراً لقلة عدد سكان هذه الدول، ومحدودية أعداد المتعلمين وأصحاب المهارات من مواطنيها في ذلك الوقت، فإنها فتحت الباب أمام العمالة الوافدة لتلبية الطلب المتزايد على عنصر العمل.
ومع تقدير الدور الإيجابي الذي قامت به العمالة الوافدة في المراحل الأولى للتأسيس والبناء، إلا أن استمرار تدفقها بأعداد متزايدة على دول المجلس أدى مع مرور الوقت إلى تعميق الخلل في التركيبة السكانية لهذه الدول. وأصبحت هذه الظاهرة تشكل حالياً مصدر قلق في بعض الدول، كما هي الحال في كل من الإمارات وقطر والكويت، حيث يمثل الوافدون الغالبية سواء على مستوى إجمالي السكان أو قوة العمل. ومن المعروف أن غالبية الوافدين ينتمون إلى عدد محدود من الدول الآسيوية في مقدمتها الهند وباكستان. وفي هذا السياق، كتب كثيرون عن التأثيرات السلبية للعمالة الوافدة في دول المجلس سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الأمني، وخاصة مع تزايد ظاهرة انخراط فئات من العمالة الوافدة في أعمال الإضراب والاحتجاج خلال السنوات الأخيرة.
وعلى الرغم من كثرة الكتابات الأكاديمية والتقارير الحكومية وغير الحكومية التي تناولت هذه المشكلة وحذرت من مخاطرها، وعلى الرغم أيضاً من تعدد الخطط والبرامج التي تبنتها دول المجلس سواء على المستوى الفردي أو الجماعي من أجل مواجهتها، إلا أن النتائج كانت متواضعة في العديد من الحالات، حيث إن المشكلة استمرت، بل ازدادت تفاقماً في بعض الدول مع مرور الوقت، خاصة وأنها أصبحت مرتبطة بمطالب دولية تطرحها وتتبناها بعض الدول والمنظمات الدولية، الحكومية وغير الحكومية، المعنية بحقوق الإنسان.
والهدف من هذا المقال ليس تكرار الحديث عن هذه المشكلة من حيث أسبابها ومظاهرها وآثارها، بل تسليط الضوء على بعض القضايا المهمة وطرح بعض التصورات التي تعزز من قدرة دول المجلس على معالجة هذه المشكلة، مع الأخذ في الاعتبار أن المشكلة تراكمت على مدى عقود ولا يمكن حلها في يوم وليلة، كما أن أية معالجة حقيقية وجدية لهذه المشكلة لا بد أن تستند إلى استراتيجية متكاملة تعالج مختلف أبعادها وجوانبها، وتحقق التوازن المنشود بين حاجة دول المجلس إلى نسبة من العمالة الوافدة من ناحية، وحاجتها في الوقت ذاته إلى الحفاظ على هويتها الثقافية والحضارية، وتوفير فرص العمل لمواطنيها، وتفادي الضغوط والانتقادات الدولية التي يمكن أن تأتي من باب العمالة الوافدة من ناحية أخرى.
وفي هذا المقام تؤكد تقارير ودراسات عديدة أن نسبةً يعتد بها من العمالة الوافدة في بعض دول المجلس هي من العمالة غير الماهرة مثل المزارعين وخدم المنازل ومن في حكمهم، فضلاً عن العمالة السائبة، والتي تشمل العمال غير المنخرطين في عمل منتظم، والمخالفين في الغالب لقوانين العمل والإقامة. ومثل هذه العمالة لا تضيف إلى العملية الإنتاجية، بل تشكل عبئاً على الاقتصاد والمجتمع والخدمات. ولذلك هناك حاجة ضرورية لمعالجة وضعية هذه النوعية من العمالة بما يحد من تأثيراتها السلبية في المجتمعات الخليجية.
ومن المفارقات أنه في الوقت الذي يشكل فيه الوافدون الغالبية ضمن هيكل قوة العمل في بعض دول المجلس، فإن معدل البطالة بدأ يتزايد بين مواطني هذه الدول وخاصة بين المتعلمين منهم. ومن المعروف أن مشكلة البطالة تمثل بيئة ملائمة لظهور وتمدد ظواهر التطرف والعنف والجريمة. ومع تعدد أسباب ظاهرة البطالة بين مواطني دول المجلس، فالمؤكد أن وجود فجوة حقيقية بين مخرجات المؤسسات التعليمية واحتياجات سوق العمل إنما يغذي هذه الظاهرة، الأمر الذي يؤكد أهمية ربط السياسات التعليمية بخطط التنمية ومتطلبات أسواق العمل. كما أن نظرة بعض الشباب من مواطني دول المجلس إلى قيمة العمل ومفهوم الوظيفة ومتطلبات الترقي في العمل بحاجة إلى تغيير، وهذه مسألة ثقافية لا بد أن تتضافر جهود الأسرة والمدرسة والجامعة ووسائل الإعلام من أجل تحقيقها.
ونظراً لارتفاع معدل التعليم العالي بين النساء في دول مجلس التعاون الخليجي، فقد آن الأوان لإفساح مجال أوسع للمرأة الخليجية لتثبت وجودها في مجالات العمل والإنتاج، خاصة وأنها أثبتت جدارتها في العديد من المجالات. ولكن بعض الاعتبارات الثقافية والقيمية والاجتماعية تقلص من مساهمة المرأة في قوة العمل وتجعلها محصورة في مجالات بعينها، مما يحد من إمكانية الاستفادة منها كعنصر فاعل في عملية التوطين، وبالتالي معالجة مشكلة الخلل في هيكل قوة العمل.
وعلى الرغم من أن كثرة الحديث عن التوطين، وتعدد الخطط والبرامج التي نفّذتها دول المجلس خلال العقود الماضية لرفع معدلاته، إلا أن نسبة التوطين في العديد من القطاعات لا تزال متواضعة في بعض دول المجلس، الأمر الذي يتطلب إجراء تقييم شامل لهذه الخطط والبرامج، واتخاذ إجراءات عملية من أجل تفعيل عملية التوطين، وذلك من خلال مسالك وأساليب عديدة في مقدمتها تعزيز برامج التدريب وتنمية المهارات الموجهة للمواطنين بما يؤهلهم للإحلال محل الوافدين.
ولا يمكن الحديث عن سياسات التوظيف والتوطين في دول المجلس من دون الإشارة إلى دور القطاع الخاص في هذا الخصوص، فعلى الرغم من تمدد دور هذا القطاع في دول المجلس، والدعم الذي يحظى به من قبل الحكومات الخليجية، إلا أن دوره في تشغيل المواطنين دور محدود في أفضل الأحوال، حيث إن كثيراً من أصحاب الأعمال يفضلون توظيف الوافدين لاعتبارات معروفة للجميع، خاصة وأن نسبة لا يُستهان بها من أنشطة القطاع الخاص، مثل تجارة التجزئة والمهن الحرفية وغيرها، هي بشكل أو آخر في أيدي وافدين. ولذلك فإن هذا الملف بحاجة إلى مراجعة جذرية، بحيث يتم التوصل إلى حلول عملية تشجع القطاع الخاص على توظيف المواطنين، وتشجع المواطنين أيضاً على العمل فيه. ومن دون ذلك سوف تتزايد مشكلة البطالة في دول المجلس مع مرور الوقت، خاصة وأن قدرة الأجهزة والمؤسسات الحكومية على استيعاب عمالة جديدة هي قدرة محدودة في أفضل الأحوال.
وخلاصة القول أنه في ظل الطفرة النفطية الجديدة، وما تتيحه لدول المجلس من فرص، فإن هناك حاجة ملحة لمعالجة مشكلة الخلل في أسواق العمل الخليجية استناداً إلى رؤية متكاملة تقوم على بناء قواعد بيانات ومعلومات دقيقة عن قوة العمل في هذه الدول، وتحديث قوانين وسياسات العمل والعمال، وربط مخرجات التعليم باحتياجات سوق العمل، وإفساح مجال أوسع للمرأة الخليجية للمساهمة في العمل والإنتاج، وتشجيع القطاع الخاص على توظيف المواطنين، وتكثيف الاعتماد على الأساليب والتقنيات منخفضة العمالة في العملية الإنتاجية، والتصدي بحسم لأية مخالفات لقوانين ونظم العمل والإقامة وخاصة في ما يتعلق بالتسلل، والاتجار في التأشيرات، وعدم وفاء بعض الشركات بالتزاماتها تجاه العمال. فضلاً عن تعزيز التعاون والتكامل بين دول مجلس التعاون في هذا المجال، ووضع الخطط والبرامج المناسبة والتي من شأنها إفساح مجال أكبر لتوظيف العمالة اليمنية في دول المجلس، وهذا يتطلب بالطبع تحرك الحكومة اليمنية بشكل جدي من أجل تطوير قدرات العمالة المحلية لتتلاءم مع معايير ومتطلبات أسواق العمل الخليجية.

Articles

دول الخليج والمفاوضات السورية – الإسرائيليـــــة

تُعتبر عودة المفاوضات السورية – الإسرائيلية بعد انقطاع استمر لثماني سنوات تطوراً مهماً على مستوى العلاقات بين الطرفين وعلى مستوى الدبلوماسية الإقليمية بصفة عامة. فبعد انقضاء ما يزيد على ثلاثين عاماً على حرب عام 1967 واحتلال هضبة الجولان السورية، ومرور أكثر من ربع قرن على قرار إسرائيل غير الشرعي بضم الهضبة رسمياً إلى دولة إسرائيل أيقن كل من الطرفين أن إلغاء الطرف الآخر بوسائل التفوق العسكري أمر لا يمكن تحقيقه، وأن طاولة المفاوضات هي ربما الأسلوب الوحيد لحل مشكلاتهما. ومهما كانت أسباب وخلفيات عودة المفاوضات بين الجانبين، فإن قرار القيادة السورية بالذهاب إلى المفاوضات يستحق الدعم العربي عموماً وأيضاً الدعم والمباركة الخليجية بوجه خاص. فقد أثبتت تجارب السنوات العشرين الماضية أن الصراع العربي – الإسرائيلي لا يمكن تسويته بأسلوب (التقسيط)، وأن السلام يجب أن يكون شاملاً ولا يستثني أي طرف. فعلى الرغم من التوصل إلى اتفاقية سلام مصرية – إسرائيلية في كامب ديفيد، وما أعقبها من اتفاقيات على المسارين الأردني والفلسطيني فإن السلام لم يتحقق بشكل مُرضٍ وفعّال، حيث كانت السياسة الإسرائيلية تتبنى موقف استبعاد سوريا من المفاوضات أو، على أقل تقدير، عدم اعتبار التفاوض مع سوريا من أولويات دبلوماسية السلام العربي – الإسرائيلي. واليوم مع عودة مسيرة المفاوضات بين الطرفين تقف سوريا في موقف الطرف الضعيف أمام إسرائيل وبخاصة في حالة تخلي الأطراف العربية عن تقديم الدعم لها نتيجة لحالة التشرذم العربي وتصاعد الصراعات والخلافات العربية – العربية حول تطورات الموقف في لبنان وفلسطين والعراق وإيران. وضمن إطار هذه الخلافات تقف سوريا في قلب العاصفة، حيث أمست لاعباً أساسياً في كل هذه الملفات مما عمّق حالة تضارب المصالح والرؤى بين سوريا وبعض الدول العربية حتى برزت هذه الخلافات إلى العلن عبر التراشق الإعلامي والدبلوماسي.
وعلى الرغم من أن للمفاوضات السورية – الإسرائيلية تاريخاً طويلاً فإن الإنجازات على هذا المسار لم يعد لها وجود، فقد كانت نهاية حرب الخليج الثانية والموقف السوري الداعم للموقف الخليجي في وجوب تحرير دولة الكويت وإنهاء الاحتلال العراقي بداية الانطلاق للمفاوضات بين الطرفين، فخلال مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط الذي عُقد في أكتوبر 1992 برعاية دولية تم إقرار مبدأ بداية المفاوضات السورية – الإسرائيلية، ولم تُفلح جولات المفاوضات الخمس بالتوصل إلى تقارب بين الطرفين، وكان لتغير القيادة الإسرائيلية خلال تلك الفترة، حيث خلف إسحاق شامير رئيس وزراء جديد هو إسحاق رابين، أثر إيجابي في تطور الجولة الثانية من المفاوضات، حيث وصلت المفاوضات بين الطرفين إلى مناقشة الجوانب والخطوات العملية للانسحاب الإسرائيلي من الأراضي السورية المحتلة، واستمرت المفاوضات بعد ذلك بشكل متقطع، حيث لعبت الدبلوماسية الأمريكية دور الحاضن والراعي لها حتى توقفها في مارس 2000 عندما انتهت جهود الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون من دفع المفاوضات إلى التوصل إلى معاهدة سلام نهائية.

وبعد نجاح الدبلوماسية التركية اليوم في إقناع الطرفين السوري والإسرائيلي بوجوب استئناف جهود التفاوض فإن هذه المفاوضات قد تواجه الفشل لأسباب وعوامل عديدة منها: أن القيادات الإسرائيلية لا تزال حتى اليوم ترفض الإقرار علناً باستعدادها للانسحاب الكامل من الأراضي السورية المحتلة، وهذه عقدة أساسية أدت إلى انهيار جولات المفاوضات السابقة بين الجانبين. فالموقف الإسرائيلي يقوم على مبدأ (أن حجم الانسحاب من الجولان يتوقف على عمق السلام وطبيعته مع سوريا)، ولا يوجد تحديد واضح لهذه المعادلة أو معنى أو مضمون (طبيعة السلام) الذي تحاول القيادات الإسرائيلية ضمانه قبل التعهد بالانسحاب الكامل. هذا إلى جانب الموقف الضعيف لرئيس وزراء إسرائيل الحالي إيهود أولمرت أمام الضغوط الكبيرة التي يخضع لها داخل تركيبة السياسة الإسرائيلية وخاصة الإجراءات القانونية الجارية ضده بخصوص التورط بتجاوزات وفضائح مالية، والتي قد تعصف بمنصبه خلال فترة قصيرة.
وعلى الرغم من كل العوائق والصعوبات التي أشرنا إليها فإن عزلة سوريا العربية ستكون أحد العوامل الأساسية التي قد تساهم في فشل هذه الجولة من المفاوضات، فسوريا ستكون دائماً ضعيفة من دون الدعم العربي. والدول العربية وخاصة الدول الخليجية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية تمتلك مصالح استراتيجية للعمل على إنجاح المفاوضات السورية – الإسرائيلية وإنهاء حالة الصراع العربي – الإسرائيلي. ولذلك يجب على السياسة العربية، وفي مقدمتها الدبلوماسية الخليجية، أن تتبنى مساراً واضحاً تجاه سوريا يقوم على أساس توفير الدعم الدبلوماسي والسياسي لها في مفاوضاتها مع إسرائيل، وأيضاً توفير البيئة والمناخ المناسبين لإنهاء التحالف السوري – الإيراني وعودة سوريا إلى التلاحم العربي في سياق صياغة العلاقات العربية – الإيرانية على أسس جديدة، فالخلافات العربية – العربية يجب ألا تطغى على مسار تحقيق السلام مع إسرائيل. وكما أعلن رئيس وزراء إسرائيل أمام الإسرائيليين أن السلام مع سوريا يتطلب تقديم (تنازلات مؤلمة) يجب القبول بها، فإن إزالة الخلافات السورية – العربية لا تتطلب إلا تنازلات معقولة ومتواضعة من كلا الجانبين حتى تعود المياه إلى مجاريها، فالخلاف السوري مع بعض الدول العربية يجب ألا يمثل، بأي شكل من الأشكال، عائقاً في توفير الدعم العربي لسوريا في مواجهة الموقف الإسرائيلي المتعنت.

Articles

الدبلوماسية الخليجية ومواجهة التحديات الراهــنة

شهدنا خلال الشهر الماضي (مايو 2008) جملة من التطورات الملحوظة على الساحتين العربية والخليجية. فخلال هذا الشهر جاء الرئيس الأمريكي جورج بوش في جولة جديدة إلى المنطقة، والتي شملت إسرائيل ومصر والسعودية، وراح يكرر الحديث عن رؤيته لشرق أوسط مستقر يعمّه السلام والاستقرار والازدهار الاقتصادي، كما راح يبشّر سكان المنطقة بمستقبل زاهر. والمراقب للتطورات على الأرض يدرك أن كلام الرئيس الأمريكي هو مجرد أحلام لا تمت للواقع بصلة، وخاصة في ظل الموقف المتفجر على جبهات عدة في المنطقة العربية. فالوعود التي قطعها الرئيس الأمريكي بتأسيس دولة فلسطينية قبل مغادرته سدة الرئاسة تبدو سراباً بعيد المنال، وأيضاً وعوده بتعزيز الاستقرار تصطدم بحالة عدم الاستقرار والفوضى التي أفرزتها القرارات الكارثية لإدارة الرئيس بوش وسياسة الولايات المتحدة الخارجية بشكل عام.
جاءت زيارة الرئيس الأمريكي الرسمية إلى إسرائيل متزامنة مع احتفالات الدولة العبرية بمرور ستين عاماً على تأسيس الكيان. وكان مضمون تصريحات الرئيس الأمريكي في هذه المناسبة يصب في خانة واحدة تتلخص باستمرار وتعاظم الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل والتعبير عن إعجابه بقوة وحصافة (الديمقراطية الإسرائيلية)، ضارباً عرض الحائط بممارسات قوات الاحتلال الإسرائيلية غير الإنسانية وانتهاكها الصارخ لكل معايير حقوق الإنسان والقوانين والأعراف الدولية. ومن خلال قراءة ما ذكره الرئيس الأمريكي عن إسرائيل بمناسبة (عيدها الستين) تبرز بوضوح أسس ازدواجية معايير ما يسمى (الدول الديمقراطية)، وخاصة المتمثلة في الممارسات الأمريكية والإسرائيلية بكونهما دولتين عدوانيتين توسعيتين تقومان باحتلال أراضي الغير وانتهاك حقوق الإنسان العربي في فلسطين والعراق، وتجاهل قرارات الشرعية الدولية. ولا شك في أن احتفال إسرائيل بعيد (الاستقلال الستين) له دلالة مؤلمة في الضمير العربي، حيث يشير إلى خيبة الأمل العميقة لدى الشارع العربي من جرّاء فشل النظام العربي الرسمي، بعد ستين عاماً من المحاولات العربية، لضمان حقوق الشعب الفلسطيني وكرامته.
جاء الرئيس الأمريكي إلى المنطقة في زيارة تبدو وداعية قبل رحيله من البيت الأبيض خلال الأشهر القليلة المقبلة. ويدرك المواطنون العرب أن تراث إدارة الرئيس بوش مثقل بكل ما هو غير إيجابي، وأن المنطقة العربية عانت، ولا تزال تعاني، وسوف تظل تعاني لفترة مقبلة من القرارات والسياسات غير الحكيمة لهذه الإدارة. فتراث الرئيس بوش من منظار خليجي يمكن تلخيصه في سلسلة من المواقف التي ستكون لها تأثيرات سلبية طويلة الأمد في أمن المنطقة واستقرارها، ابتداء من عدم قدرة الولايات المتحدة على السيطرة على الوضع في أفغانستان بعد الغزو والاحتلال الأمريكي لها عام 2001؛ مما أتاح لتنظيم القاعدة، وبدعم من الطالبان، العودة إلى ساحة العمليات، وبشكل فعال؛ مما يشكل خطراً على أمن واستقرار الدول الخليجية التي تعَد هدفاً معلناً لتنظيم القاعدة.
وجاء قرار الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق ليعمق المأزق الأمني والسياسي لدول المنطقة متمثلاً في فشل الولايات المتحدة السياسي والأمني في التعامل مع الوضع العراقي بشكل فعال وحكيم. فعراق ما بعد الاحتلال يشكل اليوم أكبر تحدٍّ استراتيجي تواجهه دول الخليج العربية، باعتبار أن ما يجري في العراق ستكون له انعكاساته المباشرة وغير المباشرة على هذه الدول؛ وتكمن جذور هذا القلق والتحسب من الوضع العراقي في طبيعة النظام السياسي والإداري الذي أنتجته حالة الاحتلال والتركيبة السياسية التي تحكم البلاد اليوم، إلى جانب عامل التدخلات الخارجية والنفوذ الخارجي الذي تأسس في العراق كثمرة للفشل الأمريكي في إدارة الأزمة.

وإضافة إلى الفشل الأمريكي في إدارة الأزمة في كل من أفغانستان والعراق يأتي الفشل في القدرة على الوقوف بوجه الطموحات الإيرانية والتعامل البنّاء مع سياسة إيران التدخلية والتوسعية في المنطقة ليضاف إلى رصيد فشل إدارة بوش في التعامل مع قضايا المنطقة؛ فقد نشأت معادلة مؤلمة لمقياس التطورات السياسية في المنطقة تقول: إن الفشل الأمريكي يوازي ويعادل النجاح الإيراني، فكل حالة فشل أمريكي قابلتها حالة نجاح إيراني على امتداد جغرافيا المنطقة لتشمل ساحات الصراع والمواجهة في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان. وعدم القدرة الأمريكية على احتواء السياسة التدخلية للقيادة الإيرانية امتد ليشمل أسلوب التعامل مع قضية الملف النووي الإيراني. فبعد تمكّن الولايات المتحدة وحلفائها في مجلس الأمن الدولي من استصدار ثلاثة قرارات استندت إلى الباب السابع من ميثاق منظمة الأمم المتحدة (باب وجوب التطبيق)، وطلبت من إيران التوقف التام والفوري عن كل نشاطات تخصيب اليورانيوم، لكن إيران سلكت مسلكاً علنياً يقوم على تكثيف جهود تخصيب اليورانيوم وتسريع القدرة والطاقة الإنتاجية لمؤسسات الدولة النووية، وأصبحت السياسة الإيرانية اليوم تقوم التحدي العلني لقرارات مجلس الأمن الدولي والإعلان عن نية إيران في عدم احترام القرارات الدولية مستقبلاً.
وعلى ضوء الفشل الدبلوماسي والعسكري الأمريكي نجد أن الدبلوماسية الخليجية بدأت في الظهور كطرف مؤثر خلال الأشهر الماضية؛ ففي مؤتمر دول الجوار العراقي الذي عقد في دولة الكويت يومي 22 -23 من شهر إبريل الماضي تمكنت الدبلوماسية الخليجية، وبشكل جماعي، من الوقوف أمام ضغوط واشنطن، حين قامت برفض المطالب الأمريكية المعلنة، والتي تركزت على وجوب قيام دول مجلس التعاون الخليجي بإعادة افتتاح سفاراتها في بغداد، كما رفضت طلب الإعلان عن إلغاء الديون المترتبة على العراق منذ غزوه للكويت. وكان الموقف الخليجي ينطلق من اعتبارات المصالح العليا لهذه الدول، التي عبّرت عن عدم الرضا تجاه سلوك حكومة بغداد، وانعدام الرغبة في تقديم الدعم لنظام يتعايش مع النزعات الطائفية ويحتضن النفوذ الخارجي. ومن خلال الاجتماع قامت الدول الخليجية بالتأكيد مجدداً على وجوب احترام سيادة العراق واستقلاله، ودعت إلى الالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة العراقية.
كما عادت الدبلوماسية الخليجية في الظهور كعنصر فاعل في التعامل مع الأزمة اللبنانية، وذلك خلال الاجتماع الطارئ لمجلس جامعة الدول العربية الذي عقد في منتصف شهر مايو الماضي حين قادت قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة مشروع إرسال لجنة عربية خاصة إلى لبنان لمحاولة التعامل مع التعقيدات التي أفرزتها المواجهة المسلحة الأخيرة بين قوى المعارضة والموالاة، ونجحت اللجنة في ترتيب (مؤتمر الحوار اللبناني) الذي عقد جلسته الأولى في العاصمة القطرية يوم 17 مايو من أجل إيجاد مخرج فعّال لإنهاء الأزمة اللبنانية، والذي أثمر في النهاية عن نجاح باهر للدبلوماسية الخليجية بعد التوصل لتوافق بين الفرقاء اللبنانيين بما يكفل وحدة وسيادة وأمن لبنان.
وهناك مهمة أخرى لا تقل أهمية تنتظر الدبلوماسية الخليجية خلال المستقبل القريب وهي مبادرة إعادة سوريا إلى الصف العربي. فالنظام في سوريا، ولمصالح ذاتية تخصّ القيادة السورية، يقف اليوم في صف القوى التي تعمل بجد على زعزعة الاستقرار العربي ووحدة الموقف العربي؛ فالتحالف السوري – الإيراني يخدم المصالح القومية العليا للدولة الإيرانية، ويدعم الأهداف الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، والتي تنطوي على ضمان دور إقليمي فاعل لإيران في كل القضايا الأساسية في منطقة الشرق الأوسط، وذلك على حساب الدور العربي وأيضاً على حساب المصالح العربية، بل على حساب الأمن والاستقرار في العالم العربي. لذا فإن الدبلوماسية الخليجية تتحمل مهمة العمل وبذل الجهود لضمان عودة سوريا إلى الصف العربي.
وتبقى الحقيقة البارزة في أحداث شهر مايو الماضي متمثلة في زيارة الرئيس الأمريكي إلى المملكة العربية السعودية والاجتماع الذي عقده مع القيادة السعودية، حيث إن ما حدث في الرياض لم يكن أكثر من حوار في الوقت الضائع، كشف عن عمق الفجوة بين إدارة الرئيس الأمريكي من جهة والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى؛ فطلبات الرئيس الأمريكي ووعوده لم تؤخذ بشكل جدّي في الرياض، خاصة وأن الحقائق على الأرض تؤكد للجميع أنه رئيس فاقد للمصداقية، تبنى سياسات وقرارات خلقت الكثير من المشكلات في المنطقة.

وأخيراً بكون الرئيس جورج بوش في طريق الرحيل عن سدة السلطة، فإن جل العواصم الخليجية تبنتْ على ما يبدو موقف غسل اليد من الإدارة الحالية، والانتظار للتعامل مع الإدارة القادمة، التي نأمل بأن تكون أكثر حكمةً وعقلانيةً وخبرةً مما يمكّن الدبلوماسية الخليجية من لعب دور بنّاء في معالجة نتائج الأزمات التي ولّدتها السياسة الأمريكية في المنطقة خلال السنوات الثماني الماضية.

Articles

العولمة ودول مجلس التعاون الخليجـــي

إذا كانت العولمة تسعى في جوهرها إلى إزالة الحواجز بين الشعوب وتعزيز الاعتمادية المتبادلة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية والارتقاء بمستوى التعاون بين الحضارات مع المحافظة على خصائص كل منها، فإن من الصعوبة بمكان أن نتحدث عن العولمة في العالم بشكل عام ودول مجلس التعاون الخليجي بشكل خاص بعيداً عن المتغيرات والتحولات التي شهدتها وتشهدها العولمة في عالم اليوم.
من نافل القول أن الاقتصاد الأمريكي هو قاطرة الاقتصاد العالمي، وأن العولمة مشروع أمريكي في المقام الأول، إلاّ أن نمو الاقتصاد الأمريكي لم يكن ليتحقق من دون خلل مالي هائل ومتزايد باطراد، فقد تم تشجيع المستهلكين على الاقتراض والاستهلاك في وقت تعاني الدولة من عجز فاضح في ميزانيتها، الأمر الذي أثار مخاوف بعض المؤسسات المالية العالمية، ولا سيما بعد أن تأكد لدى الجميع أنه لن يكون باستطاعة الاقتصاد الأمريكي أن يستمر في أداء دوره كقاطرة للاقتصاد العالمي وهو مثقل إلى هذا الحد بالديون.
فأزمة الرهن العقاري وتبعاتها المدمرة، والتكلفة المباشرة وغير المباشرة لحرب العراق، والتي وصلت إلى نحو ستة تريليونات دولار، كما ورد في كتاب (حرب الثلاثة تريليونات) للاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001، وأخيراً وليس آخراً عدم قدرة أمريكا على التقليل من استهلاكها المفرط للنفط، كما فعلت أوروبا واليابان، والذي وصل إلى 20.7 مليون برميل يومياً، جعل أمريكا أكثر تأثراً بارتفاع أسعار النفط، الذي وصل إلى معدلات قياسية جديدة بلغت (110) دولارات للبرميل، الأمر الذي ساهم في ضعف الدولار، هذه العوامل كافة تضافرت لزعزعة الدور القيادي الذي طالما اضطلعت به واشنطن.
وفي ضوء ما تقدم فإن السؤال الصعب الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: هل يستطيع العالم المحافظة على معدلات النمو الجيدة؟
لا بد من الاعتراف بأن الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، ولكنني أميل إلى الاعتقاد بأن نمو الاقتصادات العالمية الرائدة يمكن أن يستمر، ولكن شريطة أن تضطلع آسيا بدور قاطرة الاقتصاد العالمي بدلاً من أمريكا، وخاصة في ظل الزيادة المطردة في حجم التبادل التجاري والاستثمارات بين دول آسيا بما فيها دول مجلس التعاون. وقد يكون هذا تحولاً ممكناً، لكن نتائجه ليست مضمونة بسبب اعتماد آسيا المفرط على توجيه صادراتها إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية. فعلى دول آسيا العمل على الارتقاء بمستوى مهاراتها الإدارية قبل أن تتمكن من الإبحار بالاقتصاد العالمي إلى بر الأمان في هذه الظروف الصعبة. وكل المؤشرات تؤكد أن هناك أسباباً عديدة تدعو إلى التفاؤل. فمن وجهة نظر دول مجلس التعاون التي بدأت تتطلع شرقاً، فإن معدلات النمو في دول آسيا أهم بكثير من معدلات النمو في دول أخرى من العالم، وذلك بسبب المستوى العالي من التكاملية التنموية بين دول المجلس وآسيا. فدول المجلس كانت، ولا تزال، تعاني من السياسات الحمائية (protectionism) الأوروبية، والأمريكية بدرجات أقل، ولا سيما في الصناعات البتروكيماوية والألمنيوم، الأمر الذي يقف عائقاً أمام طموحات دول المجلس لتنويع وتطوير اقتصاداتها ومصادر دخلها.
أضف إلى ذلك أن الاقتصاد الآسيوي يتطور الآن بوتيرة أسرع، ويمكن له أن يستفيد من موجة الاستثمارات في المجالات الصناعية والخدمات التي تجتاح دول المجلس. فالطريق أمام التكامل الاقتصادي بين دول المجلس وجنوب شرق آسيا والصين والهند أصبح واضحاً، ويبشر بتحقيق نتائج جيدة.
لكن ما هي المعوقات أمام المشاركة الفعلية لدول المجلس وانخراطها في عملية العولمة؟
الإجابة عن هذا السؤال تستلزم إلقاء نظرة متأنية على طبيعة النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في دول المجلس.
على الرغم من كل الأدبيات التي تتحدث عن انتشار العولمة وازدهارها في منطقة الخليج، فإنني أعتقد أنه لا بد من الاعتراف بدايةً بأن العولمة ليست المحرك الأول للتغيير في دول المجلس، ولا أعتقد أنها ستكون كذلك في المستقبل المنظور. إن فهم حقيقة المتغيرات التي تشهدها دول المجلس لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن السياق الجيو-سياسي الذي لم يحظ بالاهتمام الذي يستحق حتى الآن. والمقصود بالسياق الجيو-سياسي هو (أن الأمم أو الدول تعيش في حالة دائمة من الصراع من أجل البقاء، وأن السبيل الأهم لذلك هو السيطرة على مساحات وفضاءات من الكرة الأرضية، علماً بأن هذه (المساحات والفضاءات) تحكمها قوانين يمكن أن تفرض نفسها من خلال دراسة الجغرافيا والتاريخ، ويمكن تطبيقها بنجاح في السياسة الخارجية). على صعيد آخر فإنه لا بد من الأخذ في الاعتبار أهمية الاقتصاد السياسي والاقتصاد الاجتماعي في تشكيل هيكلية دول المجلس، وذلك بهدف تقييم العلاقة بين العولمة وأسسها ومفاهيمها وأهدافها من ناحية، والمحاور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والحضارية في دول المجلس من ناحية أخرى.
إن قراءةً متأنيةً لمجمل الظروف والمعطيات في دول مجلس التعاون تؤكد بما لا يقبل الشك أن هناك خوفاً حقيقياً من العولمة. فعلى الصعيد السياسي فإن كثيراً من المسؤولين في دول مجلس التعاون لا يرون العولمة على أنها الانتقال الحر للأموال والاستثمارات والتكنولوجيا والخدمات والأشخاص وحسب، لكنها في الوقت نفسه تهديد لسلطة هذه الدول وسيادتها، ولا سيما أن هذه الأنظمة لا تزال تعتقد أنها هي المسؤولة عن الاقتصاد الوطني؛ فالعولمة في رأيهم ستؤدي إلى تراجع وتآكل الدولة في معناها التقليدي.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن خصوصيات الأوضاع والنظم الاقتصادية في دول المجلس تجعل هذه الدول تعارض القوة الاقتصادية الجارفة للعولمة، لأنها تهدد دعائم النظم الاقتصادية القائمة على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الريعية، الأمر الذي قد يؤدي إلى انتهاء السيادة الاقتصادية وانتقالها إلى الشركات العالمية.
وعلى الصعيدين الاجتماعي والحضاري يمكن القول إن بعض دول المجلس قَبِلت، وبدرجات متفاوتة، بمبدأ الاقتصاد الحر ومبادئ منظمة التجارة العالمية، لكن بعض هذه الدول فقط كانت مستعدة لفهم واستيعاب عواقب العولمة الاقتصادية على النسيج الاجتماعي في بلدانها، وتولَّد لدى هذه الدول شعور بأن العولمة قد تهدد الخصائص الدينية والحضارية والثقافية، الأمر الذي قد يؤدي إلى الشعور بالضياع والعزلة والاغتراب وفقدان الهوية.
أضف إلى ذلك أن المعارضين للعولمة يميلون إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة بعد أن أضحت القوة العسكرية العظمى الوحيدة في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، أصبحت قادرةً على فرض هيمنتها على العالم باستخدام قوتها العسكرية والاقتصادية دونما معارضة. وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 أصبحت النوايا العدوانية الأمريكية أكثر وضوحاً بعد احتلالها لأفغانستان والعراق، حيث قامت بذلك بذريعة تغيير النظام وإرساء دعائم الديمقراطية، وإذا بها تعيث في الأرض فساداً ودماراً، وتبني القواعد لضمان استمرار احتلالها؛ فهناك اعتقاد سائد لدى شرائح واسعة بأن أمريكا تسعى إلى ضمان هيمنة إسرائيل على المنطقة والاستيلاء على مواردها الطبيعية وخاصة النفط والغاز. ولتحقيق ذلك، فإن واشنطن تعمل مع تل أبيب على إضعاف وتفتيت دول المنطقة والقضاء على قدرتها على المقاومة، فقد استخدمت أمريكا حق النقض (الفيتو) 42 مرة بين عامي (1972-2006) لمنع إدانة إسرائيل في مجلس الأمن. ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى القول إن هذه المنطقة، وبصفتها قلب العالم الإسلامي، يجب أن تضطلع بمسؤولية مقاومة المخطط الأمريكي وإفشاله. وإذا كانت أمريكا تدفع بالعولمة لفرضها، فإن مقاومة العولمة -في رأيهم- تعد جزءاً من مقاومة المخطط الأمريكي للمنطقة. إن حرب أمريكا على (الإرهاب) ودعمها العسكري والسياسي والاقتصادي المطلق لإسرائيل وتقديم التبريرات لجرائمها في الأراضي المحتلة ولبنان، لم تساعد على تهدئة مخاوف دول المجلس من العولمة، وبدأ الكثيرون يسمونها بـ (الأمركة).
خلاصة القول أن العولمة فتحت آفاقاً اقتصادية واجتماعية وحضارية، وساهمت في تسهيل عملية انتقال الأموال والاستثمارات والخدمات والتكنولوجيا والأفراد بين دول العالم الغربي، لكن كما يقول الدكتور أنوشروان احتشامي في كتابه الذي صدر حديثاً تحت عنوان (العولمة والجيو-سياسة في منطقة الشرق الأوسط)، فإنه كان لها تأثير معاكس تماماً في دول المجلس. فضعف الكيانات السياسية والنظم الاقتصادية والشعور بتهديد أمريكا للهويتين القومية والدينية ودعمها لغطرسة إسرائيل وساديتها، كلها عوامل اجتمعت لتجعل دول مجلس التعاون تتوجس من العولمة، وتنظر إليها بعين الكراهية من دون النظر إلى ما يمكن أن تعود به من فائدة على المجتمع الدولي بشكل عام ودول المجلس بشكل خاص.
ونظراً لأن العولمة واقع قائم وعملية ديناميكية مستمرة ليس بمقدور أحد إيقافها، فإنه من المهم النظر إليها من زاوية إيجابياتها وسلبياتها، فهي ليست شراً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً. والتحدي الحقيقي الذي يواجه الكثير من دول العالم، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي، هو كيفية تعظيم الاستفادة من إيجابيات العولمة، والحد من تأثيراتها السلبية في الدولة والمجتمع.

Facebook
Twitter
YouTube
LinkedIn
Scroll to Top