Articles

Articles

Articles

مصر وغزة والسيناريو الإسرائيلي.

لم تكن العلاقة بين غزة ومصر وليدة اليوم أو أنها بدأت مع تدفق الفلسطينيين عبر معبر رفح إلى الأراضي المصرية. فالجغرافيا التي لا تكذب أبداً هي التي وضعت القطاع تحت إدارة مصر بعد حرب 1948، الأمر الذي استمر حتى حرب 1967 عندما وقع القطاع تحت الاحتلال الإسرائيلي. ولكن وإن تراجعت علاقات مصر مع قطاع غزة بسبب الأوضاع الجديدة، فإنها حتماً لم تنقطع، ولا سيما أن ذكرى الشهداء المصريين الذين سقطوا دفاعاً عن غزة لا تزال ماثلةً في الذاكرة العربية ومحفورةً في صفحات التاريخ.
وإن كان هناك من يشكك في هذا كله، فمن الناحية الإنسانية لا تستطيع مصر أن تتنكر لمسؤولياتها تجاه القطاع وأهله. ولذلك لم يكن مستغرباً أن تسمح السلطات المصرية لمئات الآلاف من الفلسطينيين بالتوجه إلى أراضيها بعد أن ذاقوا الأمرّين من الحصار الخانق الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على القطاع وما رافقه من عمليات اغتيال وتدمير وتجويع وقطع للكهرباء ومنع لدخول الأدوية. ولم يكن مستغرباً أيضاً أن توفر السلطات المصرية الأمن، وأن تقدم العون للفلسطينيين، وهو أمر تمليه الاعتبارات الإنسانية، وقبل ذلك الالتزامات العربية لمصر تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، فلو أن قوات الأمن المصرية أطلقت النار على الفلسطينيين، ومنعتهم من الدخول ليحصلوا على أبسط الاحتياجات من طعام وشراب ودواء، لوجدت القاهرة نفسها تقف إلى جانب تل أبيب، وتشاركها في اضطهاد هذا الشعب الذي يعاني من احتلال استيطاني بغيض . وقد جاء الانقسام السياسي بين حركتي (فتح) و(حماس)، والذي أفضى إلى وجود حكومتين، كلتاهما تدعي الشرعية، مع تجدد الاقتتال المسلح بين الطرفين من آن إلى آخر، جاء هذا الاقتتال ليكون بمثابة هدية على طبق من ذهب لحكومة أولمرت التي تتخبط على الصعيد الداخلي، وخاصة في أعقاب الفشل في الحرب على لبنان.
ولكن لا يمكن للمراقب لتطورات الأمور أن يقف عند هذا الحد في قراءاته لمجريات الأحداث وأبعادها، ولا سيما أن إسرائيل تركت الأمور تأخذ هذا المسار عن سابق تخطيط وإدراك. فحركة حماس، كما تعلم أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، تعمل منذ أسابيع على فتح فجوة في الجدار المعدني الذي أقامته إسرائيل عام 2001 وذلك باستخدام أجهزة القطع بالأوكسجين، وتمكنت بالفعل من قطع بضعة كيلومترات من الجدار الذي لا يقل ارتفاعه عن خمسة أمتار. أضف إلى ذلك أن وزير الخارجية الإسرائيلي السابق سلفان شالوم قال صراحة في لقاء مع إذاعة الجيش الإسرائيلي إنه بعد فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة فإن الخطوة التالية هي (أن يصبح مصير الضفة الغربية مرتبطاً بالأردن، بينما سيرتبط مصير قطاع غزة بمصر).
فعملية الحصار والاضطهاد وإغلاق المعابر، التي تمارسها إسرائيل بسادية مفرطة على أبناء غزة، تهدف إلى التخلص من غزة ومشكلاتها وإلقاء مسؤوليتها على كاهل مصر. ومن الواضح أن هذا يحقق أهدافاً عدة لإسرائيل لا يمكن أن تتوفر في أي ظروف أخرى. أولاً لن يكون مبرراً بعد ذلك إطلاق الصواريخ على المستعمرات الإسرائيلية، كما أنها لا تستطيع إطلاق هذه الصواريخ من الأراضي المصرية في سيناء. وعندها تصبح إسرائيل قادرة على فرض رؤيتها لإنهاء القضية الفلسطينية وإلغاء حق العودة أو المطالبة بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية. وفي هذا السياق صرّح نائب وزير الدفاع الإسرائيلي ماتان فيلناي بأن إسرائيل ترغب في نقل مسؤولية قطاع غزة من ناحية الكهرباء والمياه والأدوية إلى مصر. وأضاف في لقاء مع إذاعة الجيش الإسرائيلي (يجب أن نفهم أنه عندما تبقى غزة مفتوحة من الجانب الآخر فإننا سنصبح غير مسؤولين عنها). كما أنه إذا كان هناك تداول تجاري بين مصر وغزة، فسيكون من السهل أن تغلق إسرائيل كل معابرها إلى القطاع.
والخطير في السيناريو الإسرائيلي في حال تولي مصر مهمة مدّ غزة بالاحتياجات الأساسية، هو أن إسرائيل في حال إطلاق الصواريخ من المقاومة الفلسطينية على المستوطنات، سترد بالقصف المكثف على غزة، وهو ما سيدفع العديد من السكان للجوء إلى سيناء، التي لن تقدر إسرائيل على ضربهم فيها، باعتبارها أراضي مصرية، وهنا ستحاول تثبيت بقاء هؤلاء السكان في سيناء.
أما على الجانب الأردني، فإن المملكة الأردنية الهاشمية حريصة على عدم إيجاد سابقة خطيرة في العلاقات بين مصر وغزة، لكي لا تتورط هي في مرحلة لاحقة في مخطط مماثل يهدف إلى توريطها في ضم ما تبقى من الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية على حساب أمن واستقرار الأردن، ولا سيما أن نصف السكان ينحدرون من أصول فلسطينية. فالبلدان الوحيدان المرتبطان بمعاهدتي سلام مع إسرائيل، لا يريدان الانزلاق إلى شرك سيناريو التقاسم الوظيفي مع المناطق الفلسطينية المحتلة، الأمر الذي سيسمح لإسرائيل بالتملص من استحقاق قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. أليس هذا ما تريده إسرائيل؟
وعلى الرغم من أن البعض قد يروّج لسيناريو ضم غزة إلى مصر والضفة إلى الأردن على أمل الانتهاء من القضية الفلسطينية إلا أن المؤكد أنه في حال نجاح هذا السيناريو الذي لا يخدم المصالح المصرية أو الأردنية ستترتب عليه تبعات مدمرة على الشعب الفلسطيني الذي لا يزال في انتظار مصالحة بين فصائله التي لم تنجح حتى الآن إلاّ في إضاعة الفرصة تلو الأخرى، بينما تبقى المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل أسيرة التردد والتعنت الإسرائيليين.
وفي ضوء ما سبق، فإنه إذا كان يتعين على كافة الدول العربية وفي مقدمتها مصر مواصلة الجهود من أجل رفع الحصار الإسرائيلي البربري المفروض على غزة ، وإعادة اللحمة إلى الصف الفلسطيني بعدما أضر الصراع بين حركتي (فتح) و(حماس) بالقضية الفلسطينية أبلغ ضرر، وتلبية الاحتياجات الأساسية لسكان قطاع غزة حسب الظروف والتداعيات، فإنه يتعين الحذر كثيراً من أن يكون ما يجري حالياً في غزة مقدمة لتصفية القضية الفلسطينية وطيّ صفحتها بشكل نهائي، حيث تتطلع إسرائيل إلى التخلص من غزة وأعبائها، كما يتوجب الحذر من أن قوى دولية قد تتحرك عبر وسائل مختلفة لتهيئة الظروف التي من شأنها المساعدة على تحويل هذا السيناريو إلى واقع.

Articles

زيارة بوش والكشف عن تناقضات السياسة الأمريكية في المـنطقة

في خطابه الأساسي الذي ألقاه في أبوظبي بتاريخ الثالث عشر من يناير 2008، قام الرئيس الأمريكي جورج بوش برسم صورة قاتمة لسلوك السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة وعلى امتداد العالم واصفاً إيران بكونها (أكبر خطر يهدد الأمن والسلم العالميين). ورغم حالة المد والجزر التي تشهدها العلاقات الأمريكية – الإيرانية خلال الآونة الأخيرة، إلا أن هذا النوع من الخطاب يعبّر عن أحد الثوابت المعلنة في سياسة إدارة بوش تجاه إيران، التي تُعتبر إحدى دول محور الشر. وبغض النظر عن توجهات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه إيران، فإن أهل الخليج، حكاماً ومحكومين ليسوا بحاجة إلى من يخبرهم أو يذكّرهم بكون السلوك السياسي الإيراني يشكل تهديداً لأمن دول المنطقة واستقرارها ووحدتها الوطنية؛ فالجميع يدرك بشكل واضح الآثار المدمرة لسياسة إيران التدخلية في الشؤون العربية سواء في العراق أو لبنان أو فلسطين أو حتى اليمن وربما في دول عربية أخرى.
إن ثمة أدلة عديدة تكشف عن حقيقة التوجهات والممارسات الإيرانية تجاه الدول العربية بصفة عامة، ومنطقة الخليج بصفة خاصة، فإيران قامت منذ عقود باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث، (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى)، وترفض التجاوب مع ما تطرحه دولة الإمارات العربية المتحدة بشأن حل هذا النزاع سواء من خلال التفاوض الجدي المباشر، أو بإحالته إلى محكمة العدل الدولية. ورغم أن الموقف الثابت لدول مجلس التعاون الخليجي هو التأكيد على ضرورة حل أزمة الملف النووي الإيراني بالطرق السلمية بما يجنّب المنطقة حرباً جديدة، إلا أن التهديدات الإيرانية المتكررة بإحراق المنطقة وإغلاق مضيق هرمز، الذي هو شريان الحياة فيها، لا تعزز من فرص تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. ناهيك بالطبع عن طموحات إيران التوسعية وسياستها الرامية إلى بناء مراكز النفوذ عبر التدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، مما يكرّس حالة عدم الثقة التي تخيّم على المنطقة، حيث لا تقيم إيران اعتباراً لمصالح الدول الإقليمية الأخرى أو احتراماً لسيادتها.
ومع التسليم بضرورة الوقوف بوجه هذه السياسة الإيرانية، ووجوب الحد من طموحاتها غير الشرعية بكل الطرق والوسائل الممكنة، إلا أن ما يطالب به الرئيس بوش دول المجلس وغيرها من الدول العربية الأخرى هو التعامل مع (شجرة الخطر الإيراني) بقطع الأغصان من دون التعامل مع جذور هذا الخطر والأسباب الحقيقية التي أدت إلى تصاعده؛ فالسياسة التدخلية الإيرانية التي نمت بشكل مطرد خلال الأعوام القليلة الماضية، والتي أصبحت تجلياتها اليوم قائمة في العراق ولبنان وفلسطين، تكمن جذورها الحقيقية في فشل وتخبط السياسة الأمريكية في المنطقة وافتقادها الحكمة وبعد النظر، كما تكمن في الضعف الظاهر، أو بالأحرى الغياب الكامل للدور العربي. وبلغة أخرى، يمكن القول إن خطر إيران على دول المنطقة مصدره الرئيسي خطايا وأخطاء السياسة الأمريكية تجاه المنطقة من ناحية، وحالة العجز التي يعاني منها النظام العربي، مما جعل الأمن العربي مستباحاً من قبل أطراف إقليمية ودولية عديدة من ناحية أخرى. فالغياب العربي والخطايا الأمريكية مجتمعين وفّرا، وعلى طبق من ذهب، الفرصة التاريخية لإيران لتحويل أجزاء حيوية من قلب الأمة العربية في العراق ولبنان وحتى فلسطين إلى ساحة نفوذ تتمكن من خلالها القيادة الإيرانية من ضمان موقع قوي يكون منطلق دبلوماسية المقايضات والصفقات التي برعت فيها السياسة الإيرانية. فإيران اليوم تتحكم في كثير من مفاصل الدولة العراقية بسبب فشل السياسة الأمريكية في العراق. ومن المفارقات أن واشنطن اضطرت للدخول في مفاوضات مع طهران بشأن العراق، في الوقت الذي تتجاهل فيه الدول العربية المعنية أو التي يجب أن تكون معنية بالمسألة العراقية أكثر من غيرها. كما أن انحياز الولايات المتحدة الكامل لإسرائيل، وتجاهلها للحقوق الفلسطينية والعربية المشروعة، أفسحا المجال أمام إيران لتعزز من وجودها ودورها في المنطقة من بوابة الصراع العربي – الإسرائيلي. وكذلك فإن عجز العرب عن بلورة سياسة واضحة وفعّالة بشأن التعامل مع إيران وغيرها من دول الجوار غير العربية، وفّر فرصة لإيران للتغلغل بأشكال مختلفة في المنطقة العربية.
ومع التسليم بأن دولاً عربية عديدة بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي لها خلافاتها واختلافاتها مع السياسة الإيرانية، ومخاوفها المشروعة والمبررة من أهداف هذه السياسة وتوجهاتها، فإنه ضمن هذا الإطار، يجب أن تكون للدول العربية بصفة عامة ودول المجلس بصفة خاصة مواقفها التي تنبع من مصالحها الذاتية بمعزل عن المصالح والمتطلبات الأمريكية. إننا نؤمن بأن السياسة الإيرانية هي مصدر تهديدات وأخطار، ولكننا لا نتفق مع الرئيس الأمريكي في تأكيده على أن إيران تعد مصدر الخطر الأساسي وربما الوحيد، حيث إن الأوصاف التي أطلقها الرئيس الأمريكي على السياسة الإيرانية في كونها داعمة للإرهاب، ومن دون الدخول في جدل بشأن مدى صحة ذلك من عدمه، يمكن القول إن احتلال إسرائيل للأراضي العربية وممارساتها الإجرامية تجاه الشعب الفلسطيني لا تقل خطورة وشراً عن سياسة إيران المفترضة في دعم وتمويل الإرهاب، وإن الاحتلال الأمريكي للعراق وممارسات المحتل غير الإنسانية هناك يجب أن تُعامل بنفس الموقف وبنفس الحدة والصرامة من (الإرهاب الإيراني) المفترض.
فالتهديد الإيراني للأمة العربية الذي يحلو للرئيس الأمريكي (التطبيل) له، يجب ألا يصرف نظرنا عن تشخيص وإدانة الإرهاب الذي تمارسه إسرائيل وأمريكا على شعبنا في الوقت نفسه. فإذا كانت هناك مصلحة للرئيس الأمريكي باتباع أسلوب الانتقائية والكيل بمكيالين في تعامله مع الخطر الإيراني، فإن مصلحتنا تتطلب الافتراق عند هذا الطريق. إن موقفنا يجب أن يكون واضحاً وصريحاً في القول إننا أمسينا اليوم، مجتمعين أو فرادى، ضحايا وهدفاً للإرهاب الأمريكي – الإسرائيلي – الإيراني، وموقفنا الأساسي يجب أن تحكمه معايير موحدة تجاه الإرهاب أياً كانت مصادره أو أشكاله.
وفي ضوء ما سبق، فإنه من المهم جداً أن تصل الرسالة الحقيقية والصحيحة إلى الرئيس بوش، ومفادها أن السياسة الأمريكية غير الحكيمة، وما ترتب عليها من مغامرات غير محسوبة شكّلت – وتشكل – أكبر تهديد لأمن المنطقة واستقرارها، فإسرائيل لم تكن لتواصل سياساتها العدوانية تجاه العرب لولا الدعم الأمريكي اللامحدود لها، وإيران لم يكن لها لتمدد دورها في العراق وفي مناطق أخرى من العالم العربي لولا الفشل الأمريكي في العراق، وحالة العجز المزمنة التي يعاني منها النظام العربي. ومن هنا فإن حسن الضيافة العربية الذي اُستقبل به الرئيس الأمريكي في العواصم الخليجية والعربية التي زارها خلال جولته الأخيرة لا يعني، كما يجب ألا يُفسر على أنه موافقة على مواقف إدارته وسياساتها تجاه المنطقة، التي باتت تشكل مصدراً رئيسياً لتهديد الأمن والاستقرار فيها.

Articles

الخليج بين مصداقية أمريكا وحقيقة البرنامج النووي الإيــــراني

من نافل القول إن تطوير إيران لقدرات نووية عسكرية هو قضية تقع في صميم اهتمامات الدول العربية بصفة عامة ودول مجلس التعاون الخليجي على وجه الخصوص، باعتبارها تمس أمن وسلامة هذه الدول قبل أن تمس أمن أو سلامة الولايات المتحدة، لذا فهي قضيتها في المقام الأول. فالعرب أدركوا اليوم حقيقة مؤلمة مفادها أن العديد من الدول غير العربية المحيطة بالوطن العربي إما أنها امتلكت السلاح النووي أو تسعى جاهدة إلى امتلاكه. فإسرائيل والهند وباكستان دخلت النادي النووي من بابه الواسع قبل سنوات عديدة، أما بالنسبة لإيران، وبغض النظر عن اللغط بشأن برنامجها النووي، فإنها تتطلع لعضوية هذا النادي. بالمقابل لا توجد دولة عربية واحدة فكّرت بشكل جدي في هذا الأمر. وهذه ليست دعوة إلى الدول العربية للعمل على امتلاك السلاح النووي، كما هي الحال بالنسبة للذين امتلكوا هذا السلاح أو الساعين إلى امتلاكه، ولكنها إقرار بحقيقة مؤلمة تدل على مدى تخلف الأمة العربية في مجال التفكير الاستراتيجي بعيد المدى، وهو داء خطير تعاني منه الدول العربية بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة. فجيراننا واثقون بغياب التخطيط الاستراتيجي لدينا وقصور نظرنا وتشرذمنا، ولا يتوقعون صحوة مفاجئة تحقق نوعاً من توازن القوى في المنطقة.
ويأتي هذا الحديث على خلفية صدور تقرير مخابراتي أمريكي يقول باختصار (إن إيران أوقفت برنامجها النووي العسكري الهادف إلى تطوير قنبلة نووية في خريف عام 2003). وبالنسبة للعرب فإن بيت القصيد يكمن بالتحديد في هذه الجملة، حيث تؤكد أن إيران كانت تمتلك برنامجاً سرياً لصناعة القنبلة النووية على الرغم من الإنكار الإيراني الرسمي لذلك وحملة الضجيج التي قام بها المسؤولون الإيرانيون للتأكيد على أن إيران لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية. ونحن كعرب ودول مجاورة لإيران ماذا يعني لنا القول (إن إيران (أوقفت) برنامج تطوير القنبلة النووية)، فإيقاف البرنامج نتيجة للضغوط الدولية المتراكمة لا يعني بأي حال من الأحوال أن إيران (تخلت) عن هذا البرنامج بشكل نهائي. والشيء المقلق هنا هو التصميم الإيراني على امتلاك القنبلة النووية، والذي على ما يبدو أنه تم تجميده مؤقتاً إلى حين عبور أو تلاشي عاصفة الاحتجاجات والعقوبات الدولية.
والسؤال الأساسي الذي لم يطرحه التقرير من وجهة نظرنا هو: متى ستقوم إيران بإعادة تفعيل برنامجها الرامي إلى تطوير القنبلة النووية؟ ففي ظل التصميم الإيراني بهذا الخصوص تبقى قضية إعادة تفعيل البرنامج مجرد مسألة وقت تنتظر تغير الظروف، وتوفر بيئة مناسبة أقل حدة في موقفها من (إيران النووية). والأرجح أن هذا اليوم ليس بعيداً في ظل التطورات الداخلية، القائمة والمحتملة، على الساحة الأمريكية، وتدهور قدرات وهيبة الولايات المتحدة، وعجز الدول الأوروبية، وتراخي الدول الكبرى الأخرى كروسيا والصين. وقد رحبت القيادات الإيرانية بالتقرير الأمريكي، ولم تعترض على الاستنتاج القائل إن إيران كانت تسعى إلى لتطوير القنبلة النووية حتى عام 2003، وهو اعتراف ضمني بكونها كانت فعلياً تقوم بهذا النشاط.
ولنعد إلى قصة التقرير، ففي يوم الثالث من ديسمبر الماضى قام (مجلس المخابرات الوطنية) (NIC) في الولايات المتحدة بإصدار تقريره الذي طال انتظاره حول ملف برنامج إيران النووي. وتكمن أهمية التقرير في كونه صادراً عن أعلى هيئة مخابراتية في الولايات المتحدة الأمريكية. فمدير المخابرات الوطنية يُعد المسؤول الرئيسي في الهيكل المخابراتي في الولايات المتحدة، وهو هيكل واسع ومتعدد الهيئات والوكالات، حيث يقارب عددها الست عشرة هيئة مخابراتية مستقلة ومتخصصة، ولا تُعّد وكالة المخابرات المركزية الـ (سي. آي. إيه) إلا واحدة من الهيئات التابعة لمجلس المخابرات الوطنية الذي منذ تأسيسه في عام 1973 فإنه تولى القيام بدور حلقة الوصل بين المجتمع المخابراتي الأمريكي من ناحية وصناع القرار السياسي في واشنطن الممثلين في السلطة التنفيذية (الرئيس) والسلطة التشريعية (الكونغرس) من ناحية أخرى.

ولا يزال مجلس المخابرات الوطنية يعيش محمّلاً بتبعات تقريره الذي أصدره في أواخر عام 2002، والذي ارتكب من خلاله خطأً قاتلاً عبر تأكيده على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وهو التقرير الذي استند إليه الكونغرس في تخويل إدارة الرئيس بوش بغزو العراق واحتلاله. ومما يستوجب ذكره أن التقرير الجديد للمجلس حول إيران جاء على خلفية تقرير سابق له كان قد صدر في مايو 2005، وأشار فيه إلى استمرار مساعي إيران إلى تطوير قدراتها الذاتية لامتلاك القنبلة النووية. وعلى الرغم من أن التقرير الجديد أشار في فقراته الأخرى إلى أن (إيران أبقت خياراتها مفتوحة لتطوير الأسلحة النووية في المستقبل)، فإن ما شغل أغلب المحللين هو إشارة التقرير إلى توقف البرنامج النووي العسكري الإيراني منذ عام 2003.
وفي حقيقة الأمر، فإن إدارة الرئيس بوش الحالية أو الإدارة الأمريكية القادمة لا يمكنها تجاهل مضمون هذا التقرير. فتوقيت نشره يتزامن مع اشتداد التنافس في حملات الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتزايد حالة الوهن والضعف التي أصابت إدارة الرئيس بوش للتخبط في المأزق العراقي، كما يتزامن مع تبلور تحفظات علنية وسرية تجاه القيام بعمل عسكري أمريكي ضد إيران. وهذه التحفظات تعبر عن موقف بعض القيادات السياسية والعسكرية الأمريكية المتنفذة ضمن الإدارة الحالية وخارجها، والتي لا تجد جدوى أو مبرراً للقيام بعمل عسكري ضد إيران خلال هذه المرحلة، أو استناداً إلى أدلة ليست قاطعة وغير موثق بها.
كما يأتي هذا التقرير في سياق بعض التصريحات التي عبّرت عنها قيادات سياسية أمريكية، والتي أشارت فيها علناً إلى دعمها لفكرة قيام محادثات مباشرة وغير مشروطة مع الحكومة الإيرانية من أجل تسوية قضية الملف النووي الإيراني إلى جانب القضايا الأخرى العالقة بين الدولتين.
ويخلص التقرير في أحد بنوده إلى أن قرار إيران بإيقاف برنامجها لتطوير القنبلة النووية جاء نتيجة لمخاوف القيادة الإيرانية من تبعات وتداعيات العقوبات والضغوط الدولية التي قد تُفرض على إيران في حالة استمرارها في برنامجها العسكري. ولكن هذا التقرير جاء في وقت حرج؛ حيث ستكون له تأثيراته السلبية القائمة والمحتملة على الجهود الأمريكية – الأوروبية الهادفة إلى تشديد العقوبات الدولية المفروضة على طهران من خلال قراري مجلس الأمن الدولي رقم (1737) و(1747) اللذين طالب من خلالهما المجتمع الدولي حكومة إيران، وبإجماع أصوات أعضاء مجلس الأمن وعلى رأسهم الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية، بوجوب الإيقاف التام والشامل لكل عمليات تخصيب اليورانيوم الجارية داخل إيران. وقد مرّ عام كامل على صدور قرار المجلس الأول (صدر في ديسمبر 2006)، ولم تنصَع القيادة الإيرانية لمتطلبات القرار، مما اضطر المجلس الى إصدار قراره الثاني في فبراير 2007، ولا تزال إيران مصرّة على تحدي القرارات الدولية.
كما أن عجز مجلس الأمن الدولي عن إجبار إيران على تنفيذ القرارات المتعلقة بمطلب إيقاف نشاطات التخصيب يُعد أمراً مقلقاً، خاصة في ظل وجود عوامل أخرى تضعف من الضغوط الدولية على إيران والهادفة إلى التحقق وضمان المحافظة على الطبيعة المدنية والسلمية لبرنامجها النووي. فالفوضى العارمة التي تلف السياسية الأمريكية اليوم، والتراجع الواضح في هيبة الولايات المتحدة وقدراتها، إلى جانب الغموض الذي يلف طبيعة وأولويات ومواقف الإدارة الأمريكية القادمة التي ستخلف إدارة بوش الحالية، ناهيك عن تراخي الدول الكبرى الأخرى وتضارب مصالحها، كل هذه العوامل قد تشجع وتمنح إيران فرصة ذهبية جديدة لإعادة تفعيل برنامجها العسكري الهادف إلى امتلاك القنبلة النووية. ومثل هذا السيناريو يجب ألا يغيب عن الدول المعنية بهذا الملف، وفي مقدمتها الدول العربية بصفة عامة ودول مجلس التعاون الخليجي بصفة خاصة، حتى لا تجد نفسها أمام قوة نووية جديدة في المنطقة، لا سيما أن هذه الدول تؤكد على أهمية وضرورة جعل منطقة الشرق الأوسط برمتها خالية من أسلحة الدمار الشامل.

Articles

القمة الخليجية القادمة: تحـــــــديات وتطلعات

خلال الأسبوع الأول من شهر ديسمبر الحالي سيلتئم شمل قادة دول مجلس التعاون الخليجي في العاصمة القطرية الدوحة في اجتماع قمة دوري للتباحث حول القضايا والتحديات القائمة والمستقبلية التي تواجه دول المجلس بشكل خاص والمنطقة بصفة عامة. وتُعقد هذه القمة في ظل ظروف خليجية وإقليمية غاية في الحساسية والتعقيد، فالوضع المتفجر في العراق لا يخفى على أحد، وأزمة الملف النووي الإيراني تزداد تعقيداً في ظل تصاعد لهجة التهديدات والتهديدات المضادة، كما أن التطورات الحادة والمتسارعة على الساحة الفلسطينية وفي كل من لبنان والسودان إنما تؤكد على حقيقة المخاطر والتهديدات التي تواجه هذه الكيانات.
وإذا كان البيان الختامي الذي سيصدر عن القمة سوف يشير كالعادة إلى قائمة من القضايا الخليجية والإقليمية التي تم التباحث حولها، فالمؤكد أن أزمة الملف النووي الإيراني سوف تكون في مقدمة هذه القضايا، حيث إن هذه الأزمة لا يمكن تجاوزها أو إغفالها في أي اجتماع إقليمي. وفي هذا السياق يمكن التساؤل حول الموقف الجماعي الذي يمكن أن تتبناه دول المجلس في التعامل مع هذه الأزمة، خاصة أن هذه الدول معنية بهذا الملف لاعتبارات أمنية وبيئية.
إن العلاقات الآنية والمستقبلية بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي لا يمكن اختزالها بمشكلة الملف النووي، مع عدم التقليل من أهمية هذا الملف بالطبع، حيث إن جانباً من القلق والاهتمام الخليجي مصدره بعض التصريحات والممارسات الصادرة عن الحكومة الإيرانية الحالية بشكل عام، ولا يقتصر على طريقة تعامل هذه الحكومة مع القضية النووية. وهنا نؤكد على أهمية وضع أزمة الملف النووي الإيراني ضمن الإطار العام لسياسات وتوجهات النظام الإيراني تجاه منطقة الخليج بشكل خاص والوطن العربي بصفة عامة.
ونظراً لأن إيران دولة إسلامية، وهي جار أصيل للعرب، فإننا على قناعة تامة بضرورة أن تتأسس العلاقات الخليجية – الإيرانية على أسس من مراعاة المصالح المشتركة والالتزام بمبادئ حسن الجوار واحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، إلا أن المشكلة تكمن في سياسة التحدي والتصعيد التي يمارسها النظام الإيراني والتي تخلق حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، وذلك لاعتبارات تتعلق بالتوازنات والصراعات الداخلية في إيران. وبالطبع لا نغفل هنا المصادر الأخرى للقلق وعدم الاستقرار في المنطقة وفي مقدمتها السياسة الأمريكية الفاشلة وخاصة في العراق، والتي تصب في نهاية المطاف في مصلحة إيران. وفي هذا السياق يمكن القول إن السياسة التدخلية الإيرانية في الشؤون العربية لا تقل خطراً عن سياسة إيران النووية إن لم تتجاوزها في آثارها ونتائجها، حيث تحمل في طياتها أضراراً آنية وبعيدة المدى على الأمن العربي. فإيران تتحكم اليوم في مفاصل الدولة العراقية، وتسيطر على العملية السياسية وآلية اتخاذ القرار في العراق، وهي موجودة سياسياً وأمنياً في قلب المسألة اللبنانية، كما أنها حاضرة على الساحة السياسية الفلسطينية، ناهيك عن رفضها القاطع لأية تسوية سلمية لمسألة الجزر الإماراتية المحتلة، بل إن أصواتاً خرجت من طهران مؤخراً تدعي أن البحرين محافظة إيرانية. كما أن إيران فشلت في عملية بناء الثقة مع جيرانها في الخليج وطمأنتهم بشأن طبيعة ملفها النووي.
وإذا عدنا إلى قضية الملف النووي الإيراني، فالواضح أن القمة الخليجية القادمة تُعقد في ظل ظروف تشير إلى أن المواجهة العسكرية بشأن هذا الملف تبدو اليوم أقرب من أي وقت مضى. فإيران نجاد تقف اليوم بنفس الموقع المأساوي الذي وقف فيه عراق صدام سابقاً. فالقراران الصادران عن مجلس الأمن الدولي 1737 و1747 طالبا إيران، من دون لبس وبلغة واضحة، بوجوب التوقف الفوري عن كل الأنشطة المتعلقة بعمليات تخصيب اليورانيوم على أراضيها. ومنذ شهر مارس 2006 وحتى اليوم يكرر مجلس الأمن مطالبته هذه، في الوقت الذي تصر فيه إيران على الاستمرار في عمليات التخصيب بل والتوسع فيها، مع تصعيد لهجة التحدي في التصريحات السياسية المتكررة والتي تصدر عن مختلف مستويات القيادات السياسية والعسكرية الإيرانية.
وتجدر الإشارة إلى أن مطلب تخلي إيران عن أنشطة تخصيب اليورانيوم لم يعد اليوم مطلباً أمريكياً أو أوروبياً بل هو مطلب دولي، ولم يعد أيضاً شرطاً سياسياً بل أمسى مطلباً قانونياً واجب التنفيذ، حيث يستند إلى قرارات مجلس الأمن الدولي الصادرة طبقاً لنصوص الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية. والأدهى من ذلك أن هذه القرارات مُنحت الشرعية المطلقة عبر صدورها بالإجماع، أي بموافقة كل الدول الأعضاء في مجلس الأمن، بما في ذلك الدول التي تُوصف بـ (أصدقاء طهران) مثل روسيا والصين.
ومن المعروف أن مجلس الأمن الدولي سيجتمع قريباً لصياغة قرار جديد ضد إيران، ومن المتوقع أن يتضمن القرار الجديد عقوبات اقتصادية ودبلوماسية مشددة بهذا الشأن. وبحكم قربها الجغرافي وعلاقاتها التجارية مع إيران فإن دول مجلس التعاون، شاءت أم أبت، ستكون معنية بهذا الأمر ربما أكثر من غيرها. ونظراً لأنها جزء من الأسرة الدولية وملزمة بتنفيذ القرارات الأممية، فإنه لا يوجد أدنى شك في أن هذه الدول ستلتزم جانب الشرعية الدولية، وتطبق قرارات العقوبات الاقتصادية والمالية والدبلوماسية التي يمكن أن يقرها مجلس الأمن الدولي ضد إيران، من دون اعتبار للتكلفة المادية أو السياسية لهذا الأمر.
وبغض النظر عن الموقف العربي التقليدي من قرارات مجلس الأمن الدولي، حيث إن هناك حالة من انعدام الثقة بالمجلس وقراراته عموماً، فإن مطالب مجلس الأمن الدولي من إيران تبقى ضمن المعقول والمقبول. فالمجلس لم يطالب إيران بالتخلي عن برنامجها النووي ذي الأغراض السلمية، ولم يطالبها أيضاً بالتخلي عن مفاعلها النووي في (بوشهر)، وكل ما هدفت إليه قراراته هو وقف عمليات تخصيب اليورانيوم داخل إيران، باعتبارها تمثل عمليات إنتاج الوقود النووي متعدد الاستخدامات العسكرية والمدنية، وهنا تكمن خطورة هذه النشاطات. فإيران ستكون قادرة على شراء الوقود النووي الجاهز من مصادره الدولية للاستخدامات السلمية، وستكون قادرة أيضاً على تشغيل مفاعلها النووي في بوشهر من دون عائق. ومن هنا فإن ظلم مجلس الأمن الدولي للعرب وموقفه السلبي من القضايا العربية لا يمكن أن يُعمما على موقف المجلس من إيران.
وأخيراً، أتمنى كمواطن خليجي لقادة دول مجلس التعاون كل التوفيق في اجتماعهم المقبل، حتى يتمكنوا من صياغة استراتيجيات عملية وفعّالة للتعامل البناء مع التطورات الخطيرة التي تعصف بالمنطقة. فالتخبط الأمريكي الخطير والمكلف، والطموحات الإيرانية التوسعية، والتصاعد الخطير في النزعات الطائفية، كلها أخطار تحاصرنا من كل الاتجاهات. ولا يمكن لدول المجلس أن تتعامل بفاعلية مع هذه التحديات إلا من خلال استراتيجية موحدة تضمن المصالح العليا المشتركة لهذه الدول، وتقوم على أسس تفعيل العمل الخليجي المشترك الذي يجسده مجلس التعاون الخليجي. فالحاجة الآن إلى تقوية المجلس وتفعيل دوره وخاصة في المجالات الأمنية والدفاعية والاقتصادية هي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، فهناك مؤشرات عديدة تشير إلى احتمال نشوب حرب جديدة في منطقة الخليج بسبب الملف النووي الإيراني، ومثل هذه الحرب سوف تكون لها – في حال حدوثها – تداعياتها المباشرة وغير المباشرة على دول المجلس بشكل خاص والمنطقة بصفة عامة. وهذا يضع أمام القمة الخليجية سؤالاً كبيراً حول كيفية المساهمة في منع نشوب الحرب، وأيضاً كيفية التعامل مع تداعياتها في حال حدوثها. فدول المجلس مطالبة بالتحسب لكل الاحتمالات والاحتياط لكافة المخاطر والتهديدات، وإن لم تخطط هذه الدول لمستقبلها، فسوف يخطط له الآخرون حسب مصالحهم وأجنداتهم.

Articles

دول المجلس ومبادرة اسطنبــــــــــول للتعاون

    عُقد في دولة الكويت يومي الثاني عشر والثالث عشر من ديسمبر 2006 المؤتمر الدولي للتعاون بين منظمة حلف شمالي الأطلسي ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية تحت عنوان (مواجهة التحديات المشتركة من خلال مبادرة اسطنبول للتعاون)، والذي تم خلاله التوقيع على اتفاقية أمنية بين دولة الكويت وحلف الناتو، تتعلق بتبادل المعلومات وفق أطر معينة.

بداية لا بد من الإشارة إلى أن هذا المؤتمر حقق نجاحاً باهراً، ليس بسبب المشاركة الكثيفة من قبل دول مجلس التعاون وحلف شمالي الأطلسي، حيث عقد المؤتمر تحت رعاية سمو رئيس مجلس الوزراء الكويتي الشيخ ناصر المحمد الأحمد الصباح وحضور أمين عام حلف شمالي الأطلسي ونائبه وممثلين عن دول مجلس التعاون ودول حلف الناتو وحسب، بل بسبب الإعداد المتميز للمؤتمر والتسهيلات التي وفرها المشرفون على تنظيم هذا الحدث، ممثلا في جهاز الأمن الوطني الكويتي أيضاً.  وإذ نتوجه بالتهنئة لدولة الكويت على نجاح هذا المؤتمر، إلاّ أنه لا بد من التنويه بأن هذا ليس بالأمر الجديد على دولة الكويت التي طالما كانت سباقة ورائدة في العديد من القضايا التي تهم مستقبل وأمن واستقرار دول المجلس.

وعلى الرغم من أن أحد أهم الأهداف من وراء عقد المؤتمر هو إيصال فكرة واضحة وفهم أفضل لمضمون وأهداف مبادرة اسطنبول للتعاون وتمتين أواصر التعاون ما بين الحلف ودول المجلس وصولاً إلى الاستقرار الدائم واستتباب الأمن في منطقة الخليج، فإن هناك من لا يزال يعارض هذه المبادرة إما لجهله بمضمونها وأهدافها أو ربما لوجود أزمة ثقة تنعكس سلباً وعلى نحو مباشر على تطبيقها.

وفي إطار الجهود المبذولة للتعريف بمبادرة اسطنبول للتعاون وأهمية تعزيز العلاقات بين حلف الناتو ودول المجلس، سيعقد كل من مركز الخليج للأبحاث ومعهد الدراسات الدبلوماسية  بوزارة الخارجية في المملكة العربية السعودية وقسم الدبلوماسية العامة في حلف شمالي الأطلسي  مؤتمراً تحت عنوان (قضايا التعاون الأمني ومبادرة اسطنبول للتعاون: تعزيز علاقات حلف شمالي الأطلسي مع دول الخليج)، وذلك في الرياض يومي العشرين والحادي والعشرين من يناير 2007. ونظراً إلى أهمية هذه القضية، وبفعل الدور الحيوي الكبير الذي تضطلع به المملكة العربية السعودية في المنطقة، أرى أن من واجبي أن أحاول التعريف بمبادرة اسطنبول للتعاون وأهدافها وكذلك تحديد بعض مرتكزات أهمية توقيع المملكة على هذه المبادرة.

تتلخص مبادرة اسطنبول للتعاون (ICI)، التي أطلقت خلال قمة منظمة حلف الناتو التي انعقدت في اسطنبول من 28 ـ 29 يونيو 2004، في أنها مبادرة اختيارية ذات فوائد متبادلة ومشتركة في إطار من العلاقات الثنائية بين حلف الناتو من جهة، وكل من الدول الموجهة لها تلك المبادرة ومن ضمنها دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية من جهة أخرى، الأمر الذي شجع دولة الكويت ودولة قطر ومملكة البحرين والإمارات العربية المتحدة على توقيع هذه المبادرة، بينما لا تزال المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان تعكفان على دراسة إمكانية توقيع هذه المبادرة.  ومع أن هذه المبادرة مستقلة عن مبادرة حوار المتوسط (MD)، التي طرحها الحلف في عام 1994، إلاّ أنها لا تتعارض من حيث المبدأ مع حوار المتوسط، بل تعتبر مكملة له في ضوء التحولات الجديدة في أدوار حلف الناتو، وظهور تهديدات عالمية جديدة تمس مصالح كافة الدول المعنية بالاستقرار والأمن على الساحة الدولية، لا سيما الدول الأعضاء في حلف الناتو ودول الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا، شاملة دول البحر المتوسط ودول منطقة الخليج بما فيها المملكة العربية السعودية التي تعد من القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة والمؤثرة في الشؤون العالمية سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وتعد قواتها المسلحة من القوات المؤهلة والمتطورة، وسبق لها التعاون مع قوات دولية مختلفة خلال فترة احتلال دولة الكويت (1990 ـ 1991).

أهداف المبادرة

 تهدف مبادرة اسطنبول للتعاون إلى تعزيز الأمن الإقليمي واستقرار هذه المنطقة من العالم عن طريق بناء أسس شراكة جديدة مع حلف الناتو، من خلال تفعيل مختلف أوجه التعاون التي يقدمها الحلف للدول المهتمة في مجالات عدة منها الأمن والتدريب وشؤون الدفاع والتنسيق والتعاون العسكري عن طريق تنفيذ تدريبات عملية ذات فوائد جمة تصب جميعها في صالح القوات المسلحة العائدة للدول المعنية عند قيامها بمحاربة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل وعمليات تهريب السلاح غير المشروع، بقصد تحسين إمكانياتها لمواجهة مختلف أنواع التهديدات، وإجراء المزيد من الحوار السياسي المشترك حول مختلف القضايا ذات الاهتمام المشترك بالتعاون مع حلف الناتو.

مرتكزات توقيع المملكة العربية السعودية على مبادرة اسطنبول للتعاون

ترتكز أهمية توقيع السعودية على مبادرة اسطنبول للتعاون مع حلف الناتو على عدة مرتكزات أساسية مهمة منها:

1- المكانة المرموقة التي تحتلها المملكة في كافة المجالات على المستويين الإقليمي والعالمي، التي تؤهلها للمضي قدماً والسير بعملية شراكة إيجابية متوازنة ومتكافئة ومتعددة الجوانب ومأمونة المخاطر، من خلال بناء علاقات تعاون قوية مبنية على أسس متينة مع حلف الناتو الذي يمكن القول عنه إنه أصبح مظلة أمنية دولية بهذا الحجم الذي يضم 26 دولة، بالإضافة إلى الشراكات العالمية التي شيدها الحلف مع عدد من الدول مثل الشراكة من أجل السلام مع روسيا (PFP)، ودول حوار المتوسط (MD)، والتي تركز غالبيتها على التدريبات العسكرية المشتركة، والدوريات البحرية المضادة للإرهاب، والتعاون المشترك لمواجهة الأزمات والكوارث. يضاف إلى ما تقدم عدم وجود أي قيود أو تحفظات قانونية أو مخاطر تضر بالمصالح الوطنية العليا للمملكة العربية السعودية عند توقيعها على مبادرة اسطنبول للتعاون شأنها شأن مختلف أنواع الاتفاقيات الدولية الأخرى.

2- إن التعامل مع الحلف من قبل دول أخرى وتوقيع اتفاقيات ثنائية معه لا يختلف من حيث المبادئ الأساسية (وإن اختلفت نوعية البرامج المشتركة) عن التعاون مع دول تشكل تجمعات ومنظمات ومؤسسات عالمية أخرى مثل مجموعة الثمانية (G-8) والاتحاد الأوروبي (EU) ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)  ومجلس الشراكة الأوروبية ـ الأطلسية (EAPC) وغيرها.

3- الدور المتعاظم لمنظمة حلف الناتو على الساحة الدولية في كافة مجالات التعاون والتنسيق الثنائي والجماعي، بعيداً عن أي حماية عسكرية أو أمنية للحلف إزاء الدول الأضعف نسبياً، ودون التدخل في الشؤون الداخلية أو العلاقات الخارجية للدول الشريكة معه، حيث إن دوره الرئيسي لا يتعدى عمليات التعاون والتنسيق الثنائية في إطار شامل وشفاف من العلاقات المتوازنة بينه وبين الدول التي وقعت معه اتفاقيات شراكة واضحة المعالم لا سيما أن حلف الناتو لا يملك تحت تصرفه أية قوات عسكرية ضاربة، ولا يحرك بصورة مباشرة أية تشكيلات مقاتلة على الأرض أو في البحر أو في الجو، فهو يدير نشاطاته اليومية من خلال قيادات جغرافية معلومة على الأرض في أمريكا الشمالية وأوروبا، في حين تحتفظ الدول الأعضاء بقواتها المخصصة للحلف داخل حدودها الوطنية وتحت قياداتها العسكرية المحلية، ولكن بالتنسيق مع الهيئات ذات الاختصاص في إطار الهيكل التنظيمي للحلف بصفة عامة وقيادته في بروكسل ـ ببلجيكا.

4- يضع الحلف في اعتباراته مختلف الأفكار والمقترحات والملاحظات الصادرة عن دول الإقليم أو المؤسسات الإقليمية، بعيداً عن أي سوء فهم أو التباس، ولا يقوم بفرضها على أية جهة من الجهات المتعاونة معه، ولا يقحم نفسه في جدل سياسي حول مواضيع يتم تناولها وتداولها من قبل أطراف أخرى.

5- اتساع نطاق برامج التعاون المشتركة، التي تضمنتها وثيقة اسطنبول للتعاون حسب الأهمية والأولوية، وأهميتها للقوات السعودية المسلحة (البرية والبحرية والجوية)، وكذلك قوات الحرس الوطني والأمن الداخلي وحرس الحدود، حيث تتضمن ما يلي:

أمن الحدود وذلك من خلال ندوات أمن الحدود وندوات إدارة الحدود المشتركة وضبطها.
مكافحة الإرهاب من خلال دورات تدريب الضباط على مكافحة الإرهاب، وندوات مجلس الشراكة الأوروبية ـ الأطلسية حول الإرهاب، وتبادل المعلومات والمعرفة الاستخبارية مع الأجهزة المعنية في الدول الأعضاء بمبادرة اسطنبول للتعاون.
إصلاح وتحسين شؤون الدفاع، من خلال ورش العمل في السياسات والاستراتيجيات الدفاعية في إطار منظمة الشراكة من أجل السلام (PFP)، وإيجازات حول الإصلاحات الدفاعية، واجتماعات/ حلقات دراسية/ مؤتمرات الخبراء في مجال الدفاع، وكذلك اجتماعات/ حلقات دراسية/ مؤتمرات حول الأبعاد الاقتصادية والمالية للإرهاب ومكافحته.
تنظيم نشاطات دبلوماسية عامة، مثل المؤتمرات الأكاديمية حول الناتو وإقليم الشرق الأوسط الكبير، ومبادرات الناتو مع العالم العربي، وعلاقات الناتو مع دول الخليج، التي ترعاها إدارة الدبلوماسية العامة وكلية الدفاع في حلف الناتو، بالتعاون مع مراكز الدراسات والأبحاث والمؤسسات الأكاديمية في العالم والخليج، بالإضافة إلى تنظيم زيارات للأكاديميين من منطقة الشرق الأوسط، بما فيها دول الخليج، إلى مقرات قيادات حلف الناتو ومقرات تدريب الدبلوماسيين في حلف الناتو.
منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وذلك من خلال تركيز الجهود السياسية والدفاعية ضد انتشار أسلحة الدمار ووسائل إطلاقها، وعقد مؤتمرات وندوات في هذا المجال يشارك فيها وفود سياسية وعسكرية عليا، بالإضافة إلى التعريف بجهود حلف الناتو ضد هذا النوع من الأسلحة.
حظر الأسلحة الصغيرة والخفيفة، من خلال الندوات والاجتماعات المتعلقة بمسائل عامة والاجتماعات الخاصة التي ينظمها حلف الناتو مع الشركاء المعنيين بهذه القضايا.
التخطيط لحالات الطوارئ المدنية، وذلك عن طريق ندوات لتخطيط الطوارئ المدنية وأوجه التعاون المدني ـ العسكري (CEP/CIMIC)، ودورات ونشاطات تدريبية حول العلاقات المدنية ـ العسكرية في حلف الناتو، وندوات الموارد الأساسية عند الطوارئ كالطعام والمياه والطبابة والإخلاء والنقل، وندوات حول البنية التحتية الصعبة من حيث الإجراءات والترتيبات اللازمة، وورش عمل تخطيط مواجهة الطوارئ المدنية، وتمارين وتدريبات وهمية وميدانية للهيئات والسلطات المعنية، وأيام عمل حول عمل لجان تخطيط الاتصالات المدنية، ودورات الضباط وضباط الصف لتدريبهم على أعمال التعاون مع مختلف الحالات على المستوى التكتيكي، ودورات ضباط الارتباط على مستوى العمليات والمستوى الاستراتيجي.
إدارة الأزمات، من خلال الاجتماعات واللقاءات للخبراء على مختلف المستويات، ودورات إدارة الأزمات متعددة الجنسيات.
الاتصالات (اللقاءات) العسكرية ـ العسكرية المتبادلة عن طريق الزيارات واللقاءات والمؤتمرات لجميع القادة المعنيين، والاطلاع على مختلف نظم الإنذار المبكر المحمولة جواً والعاملة لدى حلف الناتو.
عمليات دعم السلام من مختلف الجوانب المتعلقة بالمفاهيم والخطط والعمليات عن طريق كافة أنواع الدورات وورش العمل واللقاءات المتعلقة بهذا الموضوع.
التمارين العسكرية والنشاطات التدريبية ذات العلاقة، عن طريق المشاركة والمراقبة لكافة أنواع التمارين والتدريبات، لا سيما البحرية منها والمتعلقة بمكافحة الإرهاب والتهريب في البحار، والمناطق الساحلية والموانئ.
التثقيف العسكري، التدريب، والعقيدة القتالية، وذلك عن طريق المشاركة بمختلف أنواع الدورات والنشاطات التدريبية، ولقاءات القادة على أعلى المستويات، وتبادل وجهات النظر للتوصل إلى رؤية مشتركة حول مختلف القضايا بهذا الشأن، والمشاركة بدورات اللغات على المستويات كافة ، والاطلاع على الكراسات والنشرات التدريبية.

ونستخلص مما تقدم أن مبادرة اسطنبول للتعاون التي طرحها حلف الناتو على دول مجلس التعاون، تمثل البوابة الرئيسية للاطلاع على مختلف النظم وأساليب العمل لدى حلف الناتو من قبل القادة العسكريين والأمنيين والمدنيين من ذوي العلاقة بشؤون الدفاع والأمن والقضايا الاستراتيجية والعملياتية والتكتيكية في دول مجلس التعاون، من أجل تأمين المتطلبات الأساسية للكفاءة القتالية والقابلية التبادلية لكافة التشكيلات العسكرية والأمنية، وتحسين قدراتها لتصبح بالمستوى الذي يعمل به حلف الناتو في مجال العمليات والتدريب والاستخبارات والمعلومات، والدعم اللوجستي والهندسي والإداري

Articles

نظام البيعة واستمرارية المشروع الإصلاحي الســـــــعودي

يقضي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود (حفظه الله)، أياماً عدة بجوار بيت الله الحرام في شهر رمضان الكريم من كل عام، في سنة حسنة ينتهجها ولاة أمر هذه البلاد، تقرباً إلى الله ووقوفاً على سير الخدمات والتسهيلات التي تقدمها الدولة بوزاراتها وقطاعاتها المختلفة للمعتمرين والزوار الذين يتدفقون من داخل المملكة وخارجها في العشر الأواخر من شهر رمضان من كل عام لقضاء ما تبقى من الشهر الكريم بجوار الحرم.
ولا ينسى (حفظه الله) في خضم كل ذلك، وفي زخم دبلوماسية العشر الأواخر التي تقوم بها المملكة، والتي أسفرت عن تحقيق كثير من المصالحات الإسلامية في مثل هذه الأيام من الأعوام الماضية، لا ينسى ما يتعلق بشؤون الوطن بكل مقوماته، فها هو (رعاه الله) يضيف لبنة تشريعية في إطار طمأنة الشعب السعودي على استقراره ومستقبله السياسي، فيصدر أمره الكريم بالموافقة على اللائحة التنفيذية لنظام هيئة البيعة، الذي كان قد أقره في مثل هذه الأيام من العام الماضي.
وقد جاء إقرار نظام هيئة البيعة ولائحته التنفيذية ليضع آلية قانونية ومؤسسية – واضحة ومفصلة – للخلافة السياسية وعملية انتقال السلطة بطريقة منظمة وسلسة، بما لا يسمح بحدوث أي فراغ في الحكم أو نشوب أي خلافات أو تعدد في التفسيرات والتأويلات لبعض النصوص. ولعل صدور نظام هيئة البيعة ولائحته التنفيذية إنما يؤكد على حقيقة التوجه الإصلاحي الذي يتبناه، وينفذه بخطوات ثابتة وبصيرة نافذة، خادم الحرمين الشريفين (حفظه الله)، وذلك بهدف تكريس المفهوم المؤسسي على مستوى الدولة والمجتمع، وترسيخ الاستقرار السياسي والاجتماعي في المملكة، وتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، خاصة أن نظام هيئة البيعة يأتي مكملاً للنظم الأخرى التي تسير عليها المملكة، والمتمثلة في النظام الأساسي للحكم ونظام مجلس الشورى ونظام المناطق ونظام مجلس الوزراء، وهو بذلك يشكل لبنةً جديدةً في صرح البناء الكبير الذي يواصل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله (حفظه الله) بناءه، كما يؤكد حرص القيادة السياسية على الأخذ بالشورى والرأي الجماعي في مدخلات القرار.
ومن منطلق ديناميكية التجديد في المجتمع السعودي وتطلعات المواطنين والغيرة على الدين والوطن، فإننا نناشد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز بأن يأخذ نظام هيئة البيعة ولائحته التنفيذية بعداً شعبياً، بعد أن تم إقرارهما بشكل رسمي. والمقصود بذلك أن يصبح هذا النظام وثيقة وطنية، بحيث تكتسب شرعيتها من التأييد الشعبي العلني لها. خاصة أن العديد من المؤشرات تدل على أن هذا النظام هو محل إجماع من قبل جميع المواطنين، إيماناً منهم بأهميته ودوره الفعّال في المحافظة على مكتسبات الشعب السعودي، وصيانة وحدته الوطنية، وتأمين حق الأجيال القادمة في العيش في وطن آمن ومستقر.
وفي تصورنا، فإن إضفاء الطابع الشعبي على نظام هيئة البيعة، وبعد موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز على ذلك، يمكن أن يتحقق من خلال آلية تتبناها وزارة الداخلية، بحيث تتيح لجميع المواطنين تأييد النظام في سجلات خاصة تُعد لهذا الغرض، وتوضع في مقار المناطق والمحافظات والمراكز الإدارية. ولا شك في أن تواقيع المواطنين لتأييد النظام ستكون بمثابة وثيقة تأييد وعهد، باعتبار أن هذا النظام جاء ترجمة لرغبة وطنية جامعة تنطلق من الإجماع على شرعية نظام حاكم، والولاء للأسرة الحاكمة، وستكون بمثابة امتداد للبيعة التي في أعناقهم لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين. وفي هذا الدور، إذا ما اضطلع به الشعب، امتداد للمشاركة الشعبية المتمثلة في حرص الدولة على إتاحة الفرصة للمواطنين للمشاركة في صنع القرار بشكل أو آخر، وذلك من خلال عدة قنوات مثل مجلس الشورى ومجالس المناطق والحوار الوطني وانتخابات المجالس البلدية.

وخلاصة القول أن صدور نظام هيئة البيعة ولائحته التنفيذية جاء في سياق المشروع الإصلاحي في المملكة العربية السعودية في ظل القيادة الحكيمة لخادم الحرمين الشريفين (حفظه الله)، وهو مشروع ينطلق من المصالح الوطنية للمملكة، ويراعي الثوابت الدينية والحضارية والثقافية والوطنية والقومية التي تلتزم بها، كما لا يغفل المستجدات والمتغيرات الإقليمية والعالمية وما تفرضه من استحقاقات وتحديات. ومن هنا فإن مقترح إضفاء طابع شعبي على نظام هيئة البيعة هو خطوة رمزية لها دلالتها في تعريف المواطنين بهذا النظام وترسيخ شرعيته في الوجدان الشعبي، وتأكيد معنى أن الإصلاح بمعناه الشامل هو قضية وطنية ومسؤولية عامة مشتركة تقع على عاتق الدولة والمجتمع.

Articles

العالم الإسلامي بعد 6 سنوات من أحداث 11 سبتمبر: الإرهاب في باكستان وإندونيسيا والعـــــــــراق

من المعروف أن العمليات الإرهابية ضد أهداف أمريكية، عسكرية ومدنية، لم تبدأ في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، بل إن هناك تاريخاً طويلاً لتلك العمليات يتجاوز العقود الأربعة الماضية، إذ يعود إلى مستهل أعوام الستينات من القرن الماضي، حين برزت ظاهرة استهداف المؤسسات الأمريكية من قبل جماعات إرهابية مختلفة في مشاربها العقائدية وانتماءاتها المذهبية والدينية والعرقية، ولم يكن للمسلمين أو لمن يتظلل بعباءة الدين الإسلامي إلا النصيب اليسير منها. وجاءت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر لتغير جذرياً معالم وأسس العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي. فقد صوّر الحدث على أنه اعتداء المسلمين على أرض الولايات المتحدة وشعبها. وبرز مصطلح (الإرهاب الإسلامي) ومفهوم الدول الإسلامية (الراعية للإرهاب) في اللغة اليومية للمسؤولين في الولايات المتحدة، إلى جانب استخدام المصطلح على نحو واسع في الصحافة الأمريكية والغربية بصورة عامة. وفي هذا السياق، قامت أسس التعامل على إدانة الدين الإسلامي، وليس على إدانة من استخدم الإسلام لتبرير عملياته الإرهابية، أو من يدعي التدين أو الانتماء إلى الدين الإسلامي. وانتشرت عقدة الخوف أو (الفوبيا) من كل ما له صلة بالدين الإسلامي. وبدأت ـ وبصورة منسقة ـ حملة الهجوم على الإسلام من كل حدب وصوب من دون أدلة أو مبرر. وقد كان هذا بداية لعملية (إرهاب المسلمين)، وشن حرب شعواء على الإسلام.
من قام وروّج للحرب ضد الإسلام لم يكن يعلم أن الإسلام كعقيدة سماوية تعرّض للهجوم وحملات واسعة من التشكيك منذ ظهوره، ولم يكن يعلم أيضاً أن الإسلام صمد أكثر من ألف وأربعمائة عام أمام هجمات عاتية وحروب شرسة لكونه عقيدة إلهية متكاملة وصحيحة تقوم على العدل والمساواة والالتزام بمبدأ الشورى والالتزام باحترام كرامة الإنسان، بغض النظر عن دينه أو عرقه أو لونه، ولم يكن يعلم أن الحرب غير المنطقية أو المبررة على الإسلام ستساعد على تصعيد ردّات الفعل العنيفة وليس على وأدها، ولم يكن يعلم كذلك أن هناك، من بين من يتظلل بعباءة الإسلام، وهم كثر، من استبشر خيراً بهذه الحرب غير المنصفة لأنها ستكون الأداة الأساسية التي ستُستغل في تبرير حربه غير المنصفة على مجتمعاته الإسلامية المعتدلة، وحتماً على الولايات المتحدة وحلفائها، وخاصة أن واشنطن رفعت شعار محاربة الإرهاب الإسلامي، فيما درج المتطرفون والإرهابيون على وضع كل ما يحلو لهم تحت عباءة الإسلام.
وبعد مرور ست سنوات على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي ترتب عليها إطلاق الحرب الأمريكية المعلنة على الإرهاب، نجد أن الحصيلة المؤكدة للسياسة الأمريكية الخاطئة تجاه المنطقة هي أن عدد من يوصمون بـ (الإرهابيين) تضاعف عدة مرات في فترة قياسية، مقارنة بما كانت الحال عليه قبل الحادي عشر من سبتمبر؛ كما اتسع النطاق الجغرافي للعمليات الإرهابية على نحو غير مسبوق، إذ أصبحت تنتشر على نطاق عالمي، بحيث أصبحنا في عصر (الإرهاب المعولم)، الذي يمتد من مومباسا في إفريقيا إلى بالي في إندونيسيا، ومن لندن ومدريد إلى اليمن، ومن باكستان وتركيا إلى الدار البيضاء. ناهيك عن التطور الكبير في طبيعة العمليات الإرهابية من حيث الأساليب المستخدمة في تنفيذها ودرجة شدتها وحجم ضحاياها.
ومنذ الحادي عشر من سبتمبر حتى اليوم، تزايدت الأنشطة الإرهابية في دول لم يكن هذا وضعها في السابق. وهنا نشير، وبصورة واضحة، إلى العمليات الإرهابية التي جرت ـ وتجري ـ في كلٍّ من إندونيسيا وباكستان والعراق، وهي ثلاث دول إسلامية لا تجمعها الجغرافيا، وتفرقها طبيعة مجتمعاتها المختلفة جذرياً من عادات وتقاليد وأسلوب حياة ومعيشة، ولكن وحَّدها أمر واحد؛ هو أنها أمست ساحات للنشاطات الإرهابية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

إندونيسيا
شهدت جزيرة بالي الإندونيسية يوم 12 أكتوبر عام 2002 واحدة من كبرى العمليات الإرهابية في تاريخ منطقة جنوب شرق آسيا، حيث قُتل ما يقرب من 250 شخصاً، إلى جانب سقوط أضعاف هذا الرقم من الجرحى والمصابين. وجاء الاعتداء في هيئة ثلاثة تفجيرات إرهابية متزامنة هزت المنتجعات السياحية في هذه الجزيرة الآمنة، التي يرتادها في الأغلب سياح أجانب من أستراليا ونيوزيلندا وبعض الدول الأوروبية. وقبل هذا التاريخ وبعده، شهدت المدن الإندونيسية سلسلة من الهجمات الإرهابية التي تم تكثيفها، لاسيما خلال الفترة الممتدة من عام 2002 حتى عام 2005، التي شهدت أعنف النشاطات الإرهابية وبمعدل لا يقل عن أربع عمليات إرهابية لكل عام، من ضمنها عمليات انتحارية متعددة. وكانت الهجمات الإرهابية قد استهدفت إضافةً إلى المنتجعات السياحية أهدافاً مهمة، كفنادق الدرجة الأولى وصالة المسافرين في مطار العاصمة، ومقر البرلمان ومكاتب المنظمات الدولية ومقار البعثات الدبلوماسية، بالإضافة إلى سلسلة من الهجمات على بيوت العبادة من مساجد وكنائس، ومراكز التسوق في المدن الكبرى.
وبلغ التحدي الذي تمثله التنظيمات الإرهابية مداه بإعادة مهاجمة المنتجعات السياحية في جزيرة بالي في الأول من أكتوبر عام 2005، أي قبل أحد عشر يوماً فقط من الذكرى الثالثة للهجوم الأول. وكان الهجوم الثاني قد أوقع 32 قتيلاً وأكثر من مائة جريح. وتمثل رد فعل السلطات الإندونيسية بالعمل الجدي من أجل محاولة تفكيك تنظيمات (الجماعة الإسلامية) الإندونيسية التي اتُّهمت بالوقوف وراء معظم الهجمات الإرهابية، إذ تم اعتقال القيادات الدينية والميدانية للجماعة. وجرت محاكمة عدد كبير من قيادات التنظيم وعناصره، وصدرت عدة أحكام بهذا الشأن، من ضمنها أحكام بالإعدام على قيادات الحركة ومخططي الهجمات الدموية.
وعلى الرغم من النجاحات الأمنية التي حققتها سلطات الدولة والأجهزة الأمنية الإندونيسية في ملاحقة منفذي الاعتداءات، والتي انطوت على سلسلة من الاعتقالات والملاحقات التي شملت عدداً كبيراً من العناصر المتطرفة، فإنه من السابق لأوانه القول إن النشاطات الإرهابية على الأراضي الإندونيسية تمت السيطرة عليها، أو أن الهدوء الذي شهدناه عام 2006 يُعَد دليلاً على انحسار النشاطات الإرهابية، فقبل الحادي عشر من سبتمبر لم يُعرف عن إندونيسيا أنها دولة يحتضن مجتمعها عناصر متطرفة دينياً، فقد كانت سمة الاعتدال والتسامح والانفتاح هي الغالبة على حياة المجتمع وعلى النشاطات الدينية في الدولة.
وكما هي الحال في دول إسلامية كثيرة، حدثت تحولات جذرية في موقف المجتمع كرد فعل على السياسات الخاطئة التي تم تبنيها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو ما جعل هذه المجتمعات توفر البيئة الملائمة لظهور ونمو أفكار وتنظيمات متطرفة دينياً وسياسياًَ تبنت أسلوب العنف والإرهاب وسيلةً للاحتجاج أو للتعبير عن مواقفها.
باكستان
على الرغم من أن السياسة الباكستانية خلال فترة الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفييتي كانت قد وفرت الدعم غير المحدود للجماعات المسلحة التي تمكنت من دحر المحتل، فإن العمليات الإرهابية داخل باكستان لم تظهر إلا متأخراً. وبعد الحادي عشر من سبتمبر، قامت السياسة الأمريكية على أساس جعل باكستان محوراً أساسياً للحرب الأمريكية ـ الدولية على الإرهاب؛ وذلك لعوامل جغرافية وميدانية تخص موقع الدولة وعلاقاتها بساحة العمليات في أفغانستان.
فخلال الفترة السابقة لاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، لم تشهد الساحة الباكستانية إلا عدداً محدوداً من العمليات الإرهابية. ولكن منذ أوائل عام 2002 حتى اليوم تحديداً، شهدت ساحة هذا البلد تصاعداً ملحوظاً في عدد الهجمات الإرهابية، فقد وقعت في منتصف عام 2002 عملية الهجوم على فريق المهندسين البحريين الفرنسيين في مدينة كراتشي، التي ذهب ضحيتها تسعة مواطنين فرنسيين بالإضافة إلى عدد من الباكستانيين. وجاء عام 2003 ليشهد محاولات متعددة ومتكررة من قبل المنظمات الإرهابية لاغتيال رئيس جمهورية باكستان الجنرال برويز مشرف. وعلى الرغم من فشل هذه المحاولات، فقد راح ضحيتها العشرات من المواطنين. وفي العام التالي، حدثت محاولة إرهابية فاشلة استهدفت رئيس الوزراء المكلف السيد شوكت عزيز. وفي ربيع عام 2007، تعرّض وزير الداخلية لمحاولة اغتيال فاشلة نفذها مهاجم انتحاري.

كما شهدت فترة السنوات الست الماضية تصعيداً غير مسبوق في عدد الهجمات الإرهابية التي استهدفت تعميق الخلافات والصراعات الطائفية في المجتمع، وبرزت عبر سلسلة مستمرة من الهجمات الدموية المتبادلة على المساجد والمواقع الدينية للطائفتين الشيعية والسنية، وكذلك على الكنائس المسيحية. وأسفرت هذه الهجمات الإرهابية، وأغلبيتها العظمى تمثلث بعمليات انتحارية، عن مقتل عدة مئات من المواطنين الأبرياء. ومنذ منتصف عام 2006، بدأت سلسلة الهجمات الإرهابية الموجهة ضد القوات المسلحة وعناصر الشرطة الباكستانية، واتسمت هذه العمليات بالكثافة ولا سيما في المناطق المحاذية لمنطقة الحدود الأفغانية. ولم تسلم العاصمة الباكستانية إسلام آباد من العمليات الإرهابية التي استهدفت المطار الدولي وبعض الفنادق. ومن المُلاحظ أن كثافة الهجمات الإرهابية في باكستان اتسمت بوتيرة متصاعدة منذ الحادي عشر من سبتمبر حتى اليوم. فمعدل الهجمات الإرهابية، وخاصة العمليات الانتحارية، ارتفع من هجومين كبيرين عام 2003 إلى ما يقارب عشرين هجوماً خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2007.
وتتزامن ظاهرة تصاعد العمليات الإرهابية في باكستان مع تصاعد نشاط حركة طالبان الأفغانية عبر الحدود، وعودة تنظيم القاعدة في أفغانستان إلى مزاولة نشاطه كنتيجة لفشل الإجراءات الأمريكية والدولية للقضاء على التنظيم. ومن المتوقع استمرار وتيرة التصاعد في عدد الهجمات الإرهابية في باكستان خلال الفترة المقبلة.
العراق
مع بداية عام 2002، وقبل أكثر من عام كامل على بداية الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، قامت القيادة الأمريكية، وبتوجيه شخصي من الرئيس الأمريكي جورج بوش، بإصدار أمر تم تعميمه على فروع أجهزة الاستخبارات الأمريكية كافةً، يقضي بوجوب قيام هذه الأجهزة بالبحث عن أدلة تمكن الإدارة الأمريكية من إثبات وجود صلات تعاون وتنسيق بين نظام صدام حسين من جهة، والمنظمات الإرهابية، وخاصة تنظيم القاعدة، من جهة أخرى. وكان الطلب بإثبات هذه الصلات يُعَد أمراً ضرورياً من أجل دعم القرار الأمريكي بوجوب غزو العراق واحتلاله وإطاحة نظامه تحت غطاء (رعاية الإرهاب الدولي وتهديد أمن الولايات المتحدة وسلامتها).
وقامت أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وبمساعدة بعض الأجهزة الأوروبية الصديقة، بتجنيد إمكاناتها الكبيرة من أجل البحث والتفتيش الواسع عن الدليل أو الأدلة المطلوبة. وبعد مرور ما يقرب من عام كامل من التحقق والبحث، عادت الأجهزة الاستخبارية لتعلم الإدارة الأمريكية بعدم قدرتها على الحصول على أي دليل جدي ومنطقي يثبت أن النظام العراقي السابق له أي علاقة بتنظيم القاعدة. وكانت جهود أجهزة الاستخبارات الأمريكية والأوروبية بمنزلة شهادة موثقة تدل على أن العراق دولة خالية من التنظيمات أو الجماعات الإرهابية حتى بداية الغزو والاحتلال الأمريكي للبلاد، وأن النظام العراقي بالرغم من مساوئه الكثيرة وذنوبه وخطاياه الكبيرة، لم يُقِم علاقات مع تنظيم القاعدة أو أي تنظيم إرهابي آخر، وأن من الأسلم للإدارة الأمريكية إسقاط تهمة رعاية الإرهاب الدولي عن النظام كمبرر للحرب والاحتلال، والتركيز على تهم وقضايا أخرى مثل امتلاك وتطوير أسلحة الدمار الشامل تجاوزاً لالتزامات الدولة العراقية القانونية المفروضة عبر قرارات مجلس الأمن الدولي.
واليوم، وبعد مرور أكثر من أربعة أعوام على قيام الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، يقف العراق بصفته إحدى الساحات الرئيسية لتفريخ أجيال جديدة من الإرهابيين، حيث تحول البلد إلى مركز ثقل وبؤرة جذب للعناصر الإرهابية، وأصبح يمثل قاعدة عمليات رئيسية لتنظيم القاعدة. وقد تطور مستوى العنف الذي تمارسه الجماعات الإرهابية في العراق إلى مستوى لا مثيل له من الوحشية والعدمية. وفي هذا السياق، يجب التفريق بين المقاومة الشرعية والقانونية التي تُعَد حقاً مصوناً لكل شعب يخضع للاحتلال الأجنبي، وبين الإرهاب الأعمى كممارسة إجرامية ضد المواطنين العزل، وكلاهما موجود في العراق اليوم.
ولإدراك المدى الحقيقي لانتشار ظاهرة الإرهاب في العراق وخطورتها، والذي تولد بصورة مباشرة كنتيجة للاحتلال الأجنبي للدولة، فإن الرئيس الأمريكي في خطابة الأخير الذي ألقاه يوم 22 أغسطس الماضي أمام حشد من أعضاء جمعية المحاربين القدماء وخصص الجزء الأساسي منه لمناقشة الحرب في العراق والحرب على الإرهاب، أشار إلى حقيقة مرعبة تخص النشاطات (الإرهابية) في العراق، إذ ذكر في خطابه إحصائية أمريكية رسمية تقول إن القوات الأمريكية العاملة في العراق قامت خلال الأشهر الثمانية الماضية من هذا العام (يناير ـ أغسطس 2007) بقتل أو اعتقال ألف وخمسمائة (إرهابي) كمعدل شهري. وعلى الطرف الآخر، وخلال العام الماضي، أعلنت قيادة تنظيم القاعدة على لسان أيمن الظواهري أن فرع التنظيم في العراق نفذ ما يقرب من 800 عملية انتحارية خلال فترة 28 شهراً فقط. وتتصف العمليات في العراق باتساع نطاقها الجغرافي، حيث تغطي كل أجزاء الدولة من شمالها إلى أقصى جنوبها. وتتميز بشموليتها من ناحية استهداف كل مناحي الحياة من دون استثناء، إذ تستهدف هذه العمليات قطاع الخدمات الأساسية، وهو ما أدى إلى إحداث شلل تام في مؤسسات توفير الكهرباء والماء والمواصلات والوقود، وغيرها من القطاعات الحيوية ذات الصلة بحياة المواطن، وتم استهداف مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية كافة من دون استثناء، وأيضاً استهداف المؤسسات الدينية والطائفية، فضلاً عن استهداف حياة المواطن العادي عبر عمليات التهجير القسري والاختطاف والقتل العشوائي. وقصة العراق مع الإرهاب تمثل نموذجاً واقعياً لقدرة العمليات الإرهابية على تدمير المجتمع والدولة، وتدمير الوحدة الوطنية عبر تعميق الصراع الطائفي والعرقي.
واليوم، وبعد الدمار الذي شهده العراق والمنطقة برمتها، والذي لا تبدو نهايته قريبة في المستقبل المنظور، نجد أن الإدارة الأمريكية تحاول وبإصرار ساذج وضع الحرب الدائرة في العراق اليوم، وحتى قرار غزو الدولة واحتلالها، تحت عباءة (الحرب الدولية على الإرهاب)، غافلة الحقيقة الأساسية المتمثلة في أن العراق، وبشهادة أجهزة الاستخبارات الأمريكية، لم يكن مركزاً لأي نشاطات إرهابية قبل عملية الغزو والاحتلال غير الشرعي، وأنّ تحوّل العراق إلى مركز رئيسي للنشاطات الإرهابية يعود حصرياً إلى السياسة الخاطئة وغير العقلانية التي تبنتها الإدارة الأمريكية كرد فعل لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكنتيجة للتعامل الخاطئ وغير الحكيم مع الوضع العراقي بعد الاحتلال.
وخلاصة القول إن إرهاب ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحقيقة ظهوره في دول لم تشهد الإرهاب من قبل ولم تعرفه، هو ظاهرة لصيقة بانعدام الحكمة في القرار والتصرف الأمريكيين. فعلى الصعيد الإقليمي، وبدلاً من إيجاد العلاج الجذري لظاهرة الإرهاب الخطيرة التي تهدد أمن الدول والمجتمعات، فإن السياسة الأمريكية، والسياسة الغربية عموماً، حاولتا فصل الظاهرة عن جذورها، وإغفال حقيقة أن الإرهاب ما هو إلا إفراز لاستمرار المشكلات الداخلية في بعض الدول، وفشل المجتمع الدولي والدول الكبرى في التعامل الجدي والبـنّاء لإيجاد حلول عادلة ومنصفة وإنسانية لقضايا قائمة منذ زمن طويل، كالقضية الفلسطينية وغيرها.
ومن هذا المنظور، فإن مواجهة الإرهاب لن تكون فاعلة إلا إذا تمت على مستوى دولي في إطار الأمم المتحدة، واستناداً إلى توافق دولي حول ما هو الإرهاب الذي تتعين مكافحته. أما تجاهل المشكلات الحقيقية التي تعانيها بعض الدول والمجتمعات، واستمرار النظرة الانتقائية التي تتبناها واشنطن، والمعايير المزدوجة التي تطبقها في حربها ضد الإرهاب، وتبنيها نهجَ (من ليس معنا فهو ضدنا)، فلن تفضي إلا إلى مزيد من الإرهاب على الصعيد العالمي، وهو أمر ستكون له آثاره الكارثية في الأمن والاستقرار الدوليين، ولا سيما أن إرهاب اليوم هو إرهاب تمارسه تنظيمات عابرة لحدود الدول، وتوظف التكنولوجيا الحديثة في التخطيط للعمليات الإرهابية وتنفيذها.

Articles

الاقتصاد والعلاقات الإقليمية في منطقة الخليج.. العراق وأنبوب الـــــنفط

جاءت زيارة رئيس الوزراء العراقي الى كل من تركيا وايران وسوريا خلال الايام الماضية بقليل من النتائج الفعلية وقليل من المفاجآت ، ما عدا ربما واحدة ، علماً أن هذه المفاجآت لم ترد في التحليلات الجادة التي قدمها المراقبون و المتابعون للتطورات في المنطقة. المفاجأة الأولى كانت تصريح السيد المالكي في طهران والذي شكر فيه إيران (لدورها الإيجابي في إحلال الأمن ومكافحة الإرهاب في العراق)، رغم أن السيد المالكي ورفاقه شَكوا مراراً وعلناً من دعم إيران للجماعات المسلحة في العراق. المفاجأة الأخرى أخذت طابعاً عملياً وجاءت عبر توقيع وزير النفط العراقي ،الذي رافق رئيس الوزراء العراقي، مع نظيرة الإيراني يوم العاشر من أغسطس اتفاقية لإنشاء خط أنابيب لنقل النفط العراقي الى مصافي النفط الإيرانية بطاقة استيعابية تبلغ 200 الف برميل يومياً، أي نحو عشرة في المائة من انتاج النفط العراقي بمعدلاته الحالية. والقضية الحقيقية لا تكمن في التفاصيل التقنية الخاصة بالاتفاق، بل في المبدأ الذي تم على اساسه عقد هذا الاتفاق وتوقيته. فاتفاقية بناء أنبوب النفط هي دليل واضح على التطور السريع في العلاقات الاستراتيجية التي تبلورت بين القيادة السياسية العراقية والقيادة السياسية الإيرانية منذ الغزو الأمريكي للبلاد وسقوط النظام العراقي السابق. وحقيقة الأمر فإن دول الخليج العربية تعدّ تحسن العلاقات العراقية – الإيرانية تطوراً ايجابياً يساعد على استقرار المنطقة بعد عقود طويلة من الاقتتال والتناحر بين الدولتين الرئيسيتين في منطقة الخليج، مما اثر سلباً في استقرار منطقة الخليج بشكل عام. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة أو البساطة. الذي تطور بين عراق الاحتلال وإيران الثورة الإسلامية هو أكثر من مجرد تحسين في العلاقات أو إزالة لحالة التوتر التي كانت سائدة ، وهو أمر مطلوب ومرغوب. ما شهدته السنوات الاربع السابقة هو نوع من علاقة التبعية السياسية والاستراتيجية ، لدولة عربية مهمة ومحورية كالعراق ، لدولة إقليمة تمتلك من الطموحات والمصالح الاستراتيجية ما يقلق دول المنطقة الاخرى. وحالة التبعية هذه، إن صح وصفها بذلك، تشير إلى احتمالية تطور حالة من الاختلال في موازين القوى الاقليمية، مما سيكون سبباً اساسياً في استمرار وتصعيد حالة عدم الاستقرار الإقليمي وربما تعميق مخاوف دول المنطقة الاخرى وعلى رأسها دول الخليج العربية. فلا ضرر من، ولا اعتراض على السير في تحسين العلاقات العراقية – الإيرانية، ولكن بشرط ألا يكون هذا التحسن أو التقارب على حساب علاقات العراق مع شقيقاته الدول العربية، وخصوصاً دول الجوار الخليجي من ناحية، ولا على حساب هوية العراق وانتمائه العربي من ناحية أخرى.
وعلى الجانب الآخر لم يتضح الموقف الأمريكي الفعلي من التفاهمات والوعود والعقود التي توصل اليها رئيس الوزراء العراقي في طهران. فقد جاءت زيارة رئيس الوزراء العراقي الى طهران بعد يومين فقط من عقد اجتماع مشترك بين مسؤولين أمريكيين وإيرانيين في بغداد لبحث إمكانية تعزيز التعاون الأمني في العراق. وعلى ما يبدو فإن الرئيس الأمريكي كان قد استشعر حالة من الود الزائد تجاه ايران في تصريحات وسلوك رئيس الوزراء العراقي، الأمر الذي دفع الرئيس لتحذير السيد المالكي من (اظهار تساهل كبير) تجاه إيران. وأعرب الرئيس الأمريكي عن أمله في أن تكون رسالة المالكي الى طهران (مشابهة لرسالة الولايات المتحدة). وكان رد الرئيس الأمريكي أكثر حدّة عندما علّق على وصف السيد المالكي دور ايران (بالبناء)، وأضاف انه يرغب في إجراء حوارٍ صريحٍ مع السيد المالكي لكونه لا يتفق مع هذا الوصف الإيجابي لدور إيران في العراق. ولكن الموقف الأمريكي تجاه اتفاقية إنشاء انبوب النفط بين العراق وإيران يبقى مبهماً حتى الآن، لأنه لم يصدر أي تعليق محدد يتناول هذا التطور في علاقات الدولتين.
من هذا المنطلق نجد أن اتفاقية انشاء خط انبوب النفط العراقي – الإيراني قد تحمل دلالات بعيدة المدى يجب اخذها في الاعتبار في تقييم الوضع الاستراتيجي الجديد، الذي تبلور على اثر الغزو والاحتلال الامريكي للعراق . وكنا نتمنى على الحكومة العراقية أن تمتلك نفس درجة الاندفاع والجدية التي تعاملت بهل مع مشروع الربط النفطي بين العراق وايران، وان تنظر الى مشاريع ربط العراق بدول الجوار الخليجي العربية. وهنا نشير بالتحديد الى فكرة تطوير التعاون بين العراق والكويت عبر مشروع تطوير جزيرة بوبيان الكويتية وجعلها منطقة حرة لمشاريع الطاقة، حيث يمكن إيصال أنبول النفط العراقي إلى هذه الجزيرة وتطوير مشاريع تصدير وتكرير النفط والصناعات البتروكيماوية .. وكان (مركز الخليج للأبحاث) قد طرح قبل فترة من الزمن فكرة هذا المشروع الذي يقوم على التعاون بين الاستثمارات الإقليمية والدولية تحت إشراف الحكومة الكويتية لتولي عملية التطوير لتحقيق الفائدة المشتركة. ويهدف المشروع كذلك إلى توفير الخدمات والتسهيلات على اسس تجارية لحل مشكلة العراق في تأمين صادراته النفطية واحتياجاته من المشتقات البترولية .كما أن فكرة تحويل الجزيرة الى منطقة تجارة حرة تهدف، كذلك، وبشكل تدريجي الى تلبيه احتياجات منطقة شمال الخليج برمتها، وتوفر المنصة الملائمة والمنطلق الصحيح لبداية بيئة استثمارية صحيحة تكون حاضنة لبداية تعاون إقليمي ودولي يهدف إلى دعم المشاريع التجارية والصناعية ذات المنفعة المشتركة، والتي سيكون لها مردود إيجابي على استقرار دول المنطقة وأمنها وازدهارها. أضف إلى ذلك أن مهمة ربط العراق (الجديد) ببيئته العربية – الخليجية لا تقع مسؤوليتها على عاتق القيادة العراقية دون غيرها، فالقيادة العراقية الراهنة، ولأسباب لم تعد خافية على أحد، ليست قادرة، أو لا ترغب في التقارب مع شقيقاتها الدول الخليجية، وتجد في عملية التقارب مع ايران فوائد تفوق الإغراءات التي قد يوفرها تقارب عراقي – خليجي، ربما يغضب القيادة الايرانية التي أمست تمتلك مفاتيح متعددة وأساسية في المجالات السياسية والأمنية داخل العراق. لذا فإن الوضع الراهن يتطلب من الدول الخليجية تحمل المسؤولية ومحاولة أخذ المبادرة تجنبا لإخلاء الساحة لمصالح إقليمية أحادية الجانب، الأمر الذي قد تكون له انعكاسات سلبية على المدى البعيد.

Articles

أمريكا وعملية السلام في الشرق الأوسط.. معضلة عدم المصــــداقية

لم يمثّل خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش في السادس عشر من يوليو 2007م، والذي دعا فيه إلى إحياء عملية السلام بين العرب وإسرائيل، مفاجأة للمراقبين لتطورات الأزمة الخانقة والمتصاعدة التي تدور حلقاتها في أروقة السياسة الأمريكية وعلى كل مستوياتها، الحزبية والرسمية في الوقت الراهن. فالجدل السياسي الحاد القائم في واشنطن اليوم يدور حول محور واحد وأساسي، هو المأزق الأمريكي في العراق. فالعنوان الحقيقي للأزمة ليس هو فلسطين أو قضية الأراضي العربية المحتلة، والتي قرّرت القيادة الأمريكية وضعها على رف النسيان منذ وقت طويل، بل هو (كيف يمكن تحرير أمريكا من المأزق العراقي؟). وفي هذا السياق جاء خطاب الرئيس الأمريكي الذي تضمّن الدعوة لإحياء مسيرة السلام في الشرق الأوسط، عبر مؤتمر دولي جديد يُعقد في الخريف المقبل ويضم الأطراف المعنية كلها، جاء ليمثل أحد الإفرازات الجانبية لأزمة أمريكا الخانقة في العراق.
وبهدف حشد التأييد العربي لهذه المبادرة، قام الرئيس الأمريكي بإجراء اتصالات شخصية مع عدد من القيادات العربية، بما في ذلك قيادة المملكة العربية السعودية، التي لم تتأخر عن إعلان الترحيب بالفكرة واعتبرتها بمثابة خطوة في الاتجاه الصحيح، بحكم كونها تتطابق مع أهداف ومرامي المبادرة العربية للسلام في الشرق الاوسط، التي تدعمها الدول العربية كلها.
وفي هذا السياق، فإن ترحيب المملكة العربية السعودية بالفكرة يجب ألا يُفسر خارج إطاره المحدد، بكونه لا يتجاوز مجرد الموافقة على المقترح الأمريكي الذي ينطوي على مبدأ عام يؤكد عليه كثيرون، وهو ضرورة تحقيق السلام في الشرق الأوسط، باعتبار أن ذلك شرط ضروري للأمن والاستقرار، وبالتالي فإن موافقة السعودية على الدعم العملي والمساندة الفعلية لأي مبادرة أمر مرهون بتحديد المعالم الدقيقة لمضمون المبادرة وأهدافها. فالترحيب السعودي بإحياء مسيرة السلام على مستوياتها وأطرها الدولية هو مطلب أساسي للأطراف العربية كلها. وهو الاطار والآلية اللتان يمكن من خلالهما تحقيق أهداف مبادرة السلام العربية.
وبصفة عامة، فإن من المهم أن تقوم دوائر القرارات العربية، وقبل المشاركة الفعلية في توفير الدعم للمبادرة الأمريكية الجديدة بشأن السلام في الشرق الأوسط، بمحاولة استخلاص العبر والدروس من تجارب فشل المبادرات السابقة. فإذا كانت هذه المبادرة قد وُلدت من رحم المأزق الأمريكي في العراق، ورُسمت خطوطها من أجل تحسين وتلميع صورة الإدارة الأمريكية، أو تخفيف الضغوط الهائلة التي تئن تحت ثقلها من جراء عوامل ومتغيرات عدة منها: فشل السياسة الأمركية في العراق، وتدهور الأوضاع في أفغانستان في ظل تصاعد هجمات حركة طالبان، واستمرار أزمة الملف النووي الإيراني، وتواضع نتائج الحرب على الإرهاب، ووجود صورة سلبية للولايات المتحدة على الصعيد العالمي، إذا كان الأمر كذلك، فإنه من المهم أن يكون موقف العرب واضحاً وصريحاً بخصوص أي مبادرات جديدة لتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، فهذا الصراع هو صراع مصيري، بل إن مستقبل المنطقة يتوقف في جانب مهم منه على طريقة تسوية هذا الصراع، أو وضع نهاية له.
وفي ضوء ما سبق، يتعين على الدول العربية استغلال الفرصة الحقيقة، إن كانت هناك فرصة حقيقية، وتحديد المطالب العربية العادلة والمشروعة بشكل علني وثابت، وهي لا تتجاوز في أصلها محتوى ومطالب المبادرة العربية للسلام وقرارات الشرعية الدولية. كما يتعين على العرب العمل بشكل جدي وجماعي لتجنب التورط في جولة جديدة من الخداع والمراوغة، فحقيقة العلاقات العربية – الأمريكية اليوم يحكمها عامل انعدام الثقة. إذ اتسمت سياسة إدارة الرئيس بوش الابن بالافتقار إلى الحكمة وتبني المغامرات غير المحسوبة، التي كانت ولاتزال لها تأثيرات سلبية عدة في العالم العربي. وقد اكتشف الرئيس الأمريكي وأقطاب إدارته أن سياستهم التي تقوم على محاباة إسرائيل على طول الخط لن تساعدهم، ولو قيد أنملة، على الخروج من مأزقهم العراقي. بل أكثر من هذا أصبحت بعض الدوائر الأمريكية على قناعة بأن اسرائيل التي دفعت واشنطن وشجعتها على غزو العراق لا تمتلك مفاتيح حل الأزمة، ولا تمتلك حتى القدرة على إعطاء النصائح النافعة، بل هي نفسها تعيش في رعب وترقب من تبعات انهيار الوضع الأمني والسياسي في العراق.
وفي الوقت نفسه، فقد أدرك صناع القرار الأمريكي، بعد تغافل وتجاهل طويلين، أن دعم الدول العربية قد يكون المفتاح الأساسي للمساعدة على خروج الولايات المتحدة من المأزق العراقي. وهنا يأتي الربط بين القضية العراقية والقضية الفلسطينية. ولكن قبل تقديم دعم عربي للسياسية الأمريكية في أي قضية من القضايا، على العواصم العربية إدراك حقيقة أن العلاقات بين الدول لا تقوم على العواطف والأماني، بل تحكمها المصالح والمنافع المشتركة والمتبادلة بين طرفي العلاقة.
وأخيراً، يجب التذكير بحقيقة ثابتة بخصوص مقترح المؤتمر الدولي الجديد، ففي العرف الدبلوماسي لا تُعد المؤتمرات الدولية، خاصة الموسعة منها، آلية للتفاوض المثمر، بل هي مجرد أطر معتمدة لإقرار ما انتهت إليه المفاوضات التي سبقت عقد المؤتمر. وهنا يكمن بيت القصيد، فذهاب العرب إلى المؤتمر الدولي يجب أن يكون لمهمة واحدة وحصرية هي: إقرار ومنح الشرعية لما سيتم الاتفاق علية مسبقاً، فلا حاجة لنا أن نكون جزءاً من استعراض دبلوماسي – دعائي جديد يصب في مصلحة الغير.
إن معضلة تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي وإحلال سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط ليس مبعثها غياب المبادرات، أو قلة القرارات، ولكن سببها الرئيسي هو استمرار تعنت السياسة الإسرائيلية في ظل الدعم المادي والسياسي المطلق الذي تقدمه لها واشنطن من ناحية، ووجود حالة من العجز العربي أو ضعف الإرادة العربية من ناحية أخرى. وفي ضوء انعدام مصداقية السياسة الأمريكية بشأن عملية السلام، فإن الدول العربية وإن قالت نعم لفكرة المؤتمر الدولي، لكونه يتطابق مع المطالب العربية لتحقيق حل عادل ودائم وشامل، إلا أن مشاركتها الفعلية والجدية يجب أن تكون مؤجلة ومشروطة إلى حين وضوح الصورة، من حيث طبيعة المؤتمر ومرجعيته وأطرافه.. إلخ، والتأكد من مصداقية النيّات، حتى لا تكون الجهود الأمريكية الجديدة بشأن السلام في الشرق الأوسط مجرد آلية لشراء الوقت، وتسويق الأحلام بقصد الحصول على دعم عربي حقيقي، يسمح لها بالخروج من ورطتها في العراق.

Articles

دول مجلس التعاون وأوروبا وأزمات الشرق الأوسط

خلال المنتدى الأوروبي ـ الخليجي الذي عُقد في الرياض برعاية كريمة من وزارة الخارجية السعودية والإدارة المتميزة للمعهد الدبلوماسي التابع للوزارة، تحت عنوان (أوروبا والخليج: خطوة إلى الأمام) في الفترة ما بين السادس والعشرين والثامن والعشرين من مايو 2007، تقدمت بمداخلة حرصت من خلالها على تسليط الضوء على مساهمات دول مجلس التعاون الخليجي في تسوية الأزمات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، ولا سيما أن هناك نوعاً من التداخل والترابط بين قضايا المنطقة. فإذا كانت القضية الفلسطينية تمثل قضية مركزية، فإنها وثيقة الارتباط بالأزمة اللبنانية، وخاصة في ظل الوجود الفلسطيني المكثف على الساحة اللبنانية. كما أن هذه القضية وثيقة الارتباط بصورة ما بالمسألة العراقية؛ فالعراق تحوّل إلى ساحة لتصفية الحسابات بين قوى إقليمية ودولية، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية المتورطة في العراق، والتي تبحث عن دعم عربي لها للخروج من ورطتها هناك تقدم الدعم المطلق لإسرائيل التي تشن حرباً مدمرة ضد الفلسطينيين. ثم إن أزمة الملف النووي الإيراني لا تنفصل عن بقية أزمات المنطقة. فإيران فاعل رئيسي في العراق، وهي حاضرة على ساحة الصراع العربي ـ الإسرائيلي عبر دعم حركة حماس وحزب الله، ناهيك عن خطابها المتشدد تجاه إسرائيل.إن استمرار الأزمات في المنطقة وتحولها إلى صراعات اجتماعية ممتدة يمثلان مصدراً رئيسياً لتغذية ظواهر التطرف والعنف والإرهاب فيها. ولعل تواضع نتائج الحرب على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية يمثل خير دليل على خطورة هذه الظاهرة التي باتت تمثل عاملاً جوهرياً لتهديد الأمن والاستقرار، ليس على صعيد منطقة الشرق الأوسط وحسب، بل على الصعيد العالمي.كما أن استمرار الأزمات في منطقة الشرق الأوسط يقلص من فرص بناء بيئة أمنية مستقرة في منطقة الخليج، وخاصة في حال تفكك الدولة العراقية أو اندلاع مواجهة مسلحة بسبب الملف النووي الإيراني. وفي هذا الإطار، سيصبح أمن الطاقة أكثر تهديداً وانكشافاً، بكل ما يترتب على ذلك من انعكاسات وتداعيات سلبية على الاقتصاد العالمي.ويؤكد فشل السياسة الأمريكية وتخبطها في المنطقة أهمية معالجة مشكلات المنطقة في سياق إقليمي / دولي متعدد الأطراف، يأخذ في الحسبان مصالح مختلف الأطراف، ويؤمّن مشاركة دولية فعالة لمعالجة المشكلات وحلّها بصورة جذرية، وليس مجرد تسكينها أو تهدئتها.وفي ضوء ما سبق، تحرص دول مجلس التعاون الخليجي على تسوية الأزمة اللبنانية الحالية على نحو يحول دون اندلاع حرب أهلية جديدة قد تفضي إلى تفكك الدولة اللبنانية. لذلك، فإن هناك اتفاقاً وسياسة مشتركة بين دول مجلس التعاون الخليجي تجاه الأوضاع في لبنان، ويتأسس هذا الإجماع على دعم الحكومة الشرعية في لبنان ورفض أي تدخلات خارجية في شؤون لبنان الداخلية أو كل ما من شأنه أن يهدد سيادة لبنان، سواء من قبل أي أطراف إقليمية أو دولية، بالإضافة إلى تأييد القرارات الدولية بشأن لبنان.لقد مثلت الحرب على لبنان التي اندلعت في صيف عام 2006 حداً فاصلاً للدبلوماسية الخليجية. وبغض النظر عن التفسيرات والتأويلات التي طُرحت لمواقف بعض الدول الخليجية تجاه العدوان الإسرائيلي على لبنان، فمن المؤكد أن كل دول مجلس التعاون الخليجي بذلت ما تستطيع من جهود من أجل وقف الحرب، كما أيدت جهود الأمم المتحدة لمراقبة الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، كما قدمت دول الخليج مساعدات فورية إلى لبنان خلال الحرب وفي أعقابها، تمثلت بمساعدات في مجال إزالة الألغام قدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة. كما أعلنت المملكة العربية السعودية في يوليو 2006 تقديم مليار دولار مساعدة لمصرف لبنان المركزي لدعم العملة اللبنانية، بالإضافة إلى 500 مليون دولار مساعدة في جهود الإعمار، و50 مليون دولار إعانة فورية. وساهمت دولة قطر بقوات تُقدر بنحو 203 جنود للمشاركة في قوات الأمم المتحدة العاملة في لبنان (اليونيفيل)، وذلك طبقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 الذي دعا إلى تعزيز قوات (اليونيفيل) لكي تتمكن من مراقبة وقف الأعمال العدائية.لقد واصلت دول الخليج تقديم دعمها المالي للبنان، وليس هناك حالياً أي استثمارات خارجية في لبنان بخلاف استثمارات دول الخليج. كما قدمت هذه الدول تعهدات مالية كبيرة خلال مؤتمر باريس الثالث الذي عُقد في الخامس والعشرين من يناير 2007، فبينما تعهدت المملكة العربية السعودية بتقديم 1.1 مليار دولار تتضمن 100 مليون دولار كدعم للميزانية ومليار دولار لتمويل مشروعات تنموية وجهود الإعمار، قدمت دولة الإمارات العربية المتحدة قرضاً ميسراً للحكومة اللبنانية بقيمة 300 مليون دولار عن طريق صندوق أبوظبـي للتنمية. كما ساهمت سلطنة عُمان بمبلغ 10 ملايين دولار لدعم ميزانية لبنان، وأيدت كل دول مجلس التعاون الخليجي قرار الأمم المتحدة بشأن اغتيال الحريري وإجراء التحقيق اللازم، مع محاكمة المتورطين في الجريمة.وتتطلع دول مجلس التعاون الخليجي إلى أن تسير التحضيرات للانتخابات الرئاسية في لبنان قدماً بحسب ما هو مقرر لها في نوفمبر 2007، كما أنها تدعم الحكومة اللبنانية في القتال الجاري بين القوات المسلحة اللبنانية وجماعة فتح الإسلام. وكان هناك إجماع خليجي على دعم قرار مجلس الأمن الدولي الذي يطالب سوريا بالخروج من لبنان (قرار مجلس الأمن رقم 1559).بالإضافة إلى ما سبق، وفي إطار التزاماتها العربية، فإن دول مجلس التعاون الخليجي تركز على تعزيز التضامن العربي بصفة عامة، والعمل من أجل تجنيب سوريا المزيد من الضغوط الخارجية على خلفية سياساتها الإقليمية والدولية، وقد تجلى ذلك بوضوح خلال القمة العربية التي عُقدت في الرياض خلال شهر مارس 2007. ومن المهم ألا تقدم سوريا الذرائع لقوى دولية قد تبدو متربصة أو باحثة عن كبش فداء. وفي هذا السياق، ربما يتطلب الأمر مبادرة سورية باتخاذ خطوات جدية على طريق الإصلاح الداخلي ومراجعة بعض التوجهات والسياسات الإقليمية والدولية.
وتبدي دول مجلس التعاون الخليجي دعمها لجهود لجنة الأمم المتحدة لإيجاد حل للوضع في مزارع شبعا، وتؤكد ضرورة أن تتوصل اللجنة المذكورة إلى حل يحسم قضية تبعية هذه المزارع؛ ولا سيما أن حل قضية مزارع شبعا سوف يعزز من تحقيق هدف استعادة الدولة اللبنانية لدورها على كل الصعد ووضع حد لظاهرة وجود السلاح خارج إطار الجيش اللبناني.وعلى غرار الحالة اللبنانية، فإن لدى دول مجلس التعاون الخليجي سياسة مشتركة تجاه القضية الفلسطينية، وهي تسعى إلى تحقيق الأهداف نفسها. وتُعَد المبادرة السعودية التي تم طرحها والاتفاق حولها أول مرة في مؤتمر القمة العربي في بيروت في عام 2002 خطوة مهمة وتحولاً كبيراً من حيث الدعم الواضح للحل القائم على إنشاء دولتين، ومن ثم تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ولقد تم تحويل المبادرة السعودية الآن إلى مبادرة عربية تمثل أقصى ما يمكن أن يقدمه الجانب العربي.إن القضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيين فقط، بل هي قضية عربية وإسلامية. وعلى سبيل المثال، فإن القدس قضية العالمين العربي والإسلامي، وكذلك الأمر بالنسبة لوضع اللاجئين، حيث إن معظم الدول العربية تستضيف لاجئين فلسطينيين يعيشون على أراضيها. وتساهم دول المجلس بجهود متعددة على مستويات مختلفة مع الطرف الفلسطيني، ويتجلى ذلك من خلال اتفاقية مكة التي تمت برعاية سعودية بين حركتـي (حماس) و(فتح)، والتي أدت إلى الاتفاق على تأليف حكومة الوحدة الوطنية، كما تواصل دولة الإمارات العربية المتحدة دعمها المنتظم لحكومة (أبو مازن).ولا تزال معظم المبادرات الرامية للتوصل إلى حل للقضية الفلسطينية تكمن في أيدي دول الخليج أو بالأحرى تستطيع القيام بدور مهم فيهذا الخصوص. وفي ظل غياب أو تراجع الدور القيادي لأطراف عربية أخرى، تضطلع دول الخليج بمسؤولية القيادة السياسية الفاعلة، مستعينة على ذلك بعناصر توفر الاستقرار السياسي الذي تتمتع به هذه الدول، وعلاقاتها الخاصة مع الولايات المتحدة، فضلاً عن السياسة الموحدة التي تتبناها تجاه القضية الفلسطينية.وعلى الرغم من اتفاق الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي على الأهداف التي لا بد من تحقيقها لتسوية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي؛ باعتبار أن حل الدولتين لا خلاف عليه من حيث المبدأ، لكن المشكلة تكمن في غياب أي ضغوط أمريكية حقيقية على إسرائيل، بل تقديم الدعم المطلق لها، وهو ما يساعدها على الاستمرار في عدوانها على الشعب الفلسطيني. وهناك شعور مشترك بأن دولة مثل إيران تحاول الآن اختطاف القضية الفلسطينية وتجييرها لمصلحتها عقب فشل الإسرائيليين في لبنان والفشل الأمريكي في العراق. ويعود التركيز الآن لجعل القضية الفلسطينية قضية عربية وعدم السماح للآخرين بإثارة المزيد من عدم الاستقرار في المنطقة عن طريق السعي إلى تحقيق مصالحهم الخاصة من خلالها. وترى دول الخليج أن الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني يلحق أكبر الضرر بالقضية الفلسطينية، وبصدقية الفصائل الفلسطينية التي تسعى من أجل إقامة دولة فلسطينية. ولذلك، فإنه لا بد من وقف أي اقتتال والحيلولة دون تجدده مرة أخرى.وفي ما يتعلق بالمسألة العراقية، فقد أصبح العراق نموذجاً للفوضى والانفلات الأمني والعنف الطائفي وانعدام الخدمات والتهجير القسري، حيث تواجه الولايات المتحدة الأمريكية مأزقاً كبيراً في العراق. وقد تحولت المسألة العراقية إلى مشكلة داخلية في السياسة الأمريكية، كما أن قيام عدة دول بسحب قواتها من العراق سيعقّد من موقف واشنطن. ولا شك في أن استمرار الأوضاع الراهنة سوف يفضي إلى تفكك الدولة العراقية لتصبح ساحة لتصدير التطرف والعنف والإرهاب.لقد سبق للمملكة العربية السعودية أن انتقدت علانية السياسة الأمريكية في العراق، حيث هيأت هذه السياسة الظروف التي سمحت لإيران بأن تقبض بمفاصل الدولة العراقية. كما سعت المملكة إلى تعزيز المصالحة بين القوى العراقية الرئيسية. وتقدمت دول الخليج في أكثر من مناسبة بتصورها بشأن حل المسألة العراقية، وخاصة في ما يتعلق بالحفاظ على وحدة العراق وسلامة أراضيه ومشاركة جميع العراقيين في العملية السياسية على قاعدة الوحدة الوطنية، وتحقيق استفادة مختلف العراقيين من الثروة النفطية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للعراق، بحيث يقود كل ذلك في نهاية المطاف إلى خروج القوات الأجنبية من العراق خلال فترة زمنية معقولة، لكن السياسة الأمريكية في العراق حالت دون ذلك، وأدت إلى المزيد من تفاقم الأوضاع.أما بالنسبة لموضوع التعاون الخليجي ـ الأوروبي فقد بدا واضحاً من خلال المداولات التي شهدها المنتدى أن السياستين الأوروبية والخليجية تعملان من أجل تحقيق الأهداف نفسها، حتى لو بدت المقاربة والتفاصيل مختلفة في ظاهرها. ويبدو أن هناك حاجة إلى قدر أكبر من الإجماع بين الجانبين. لقد أصبح من المهم تسريع وتيرة تعزيز العلاقات الخليجية ـ الأوروبية على الصعد الاقتصادية والأمنية والسياسية. حيث إن من مصلحة الدول الأوروبية ودول الخليج المشاركة بفاعلية في حل قضايا المنطقة، لأن عدم الحل أو انفراد واشنطن بالحل على طريقتها سوف يولّد المزيد من المشكلات والتحديات التي ستنعكس سلباً على دول الخليج والاتحاد الأوروبي على حد سواء.

Facebook
Twitter
YouTube
LinkedIn
Scroll to Top